الأصول النافعة في الذب عن أحاديث الشفاعة وأئمة الشريعة التي يسعى إلى تخريبها الحدادية المبتدعة

أضف رد جديد

كاتب الموضوع
أبوأنس بشير الجزائري
مشاركات: 77
اشترك في: صفر 1436

الأصول النافعة في الذب عن أحاديث الشفاعة وأئمة الشريعة التي يسعى إلى تخريبها الحدادية المبتدعة

مشاركة بواسطة أبوأنس بشير الجزائري »

الأصول النافعة في الذب عن أحاديث الشفاعة وأئمة الشريعة التي يسعى إلى تخريبها الحدادية المبتدعة


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه الكرام
أما بعد :
فيقول الله تعالى في كتابه العزيز:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[البقرة:208]
قال الإمام السعدي ـ رحمه الله ـ في " تيسير الكريم الرحمن"(ص: 94) : (( هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا {فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي: في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه، تركه، بل الواجب أن يكون الهوى، تبعا للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه، من أفعال الخير، وما يعجز عنه، يلتزمه وينويه، فيدركه بنيته.))
قد خالف طوائف أهل البدع والأهواء قديما وحديثا هذا الأمر الإلهي ، ووقعوا فيما نهى الله تعالى من الوقوع فيه من الأخذ بعض الكتاب وترك بعضه ، قال تعالى:{أَفَتؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} ، وأصبح هذا من علاماتهم الظاهرة البادية عليهم في كل زمان ، مما كان سببا في ابتداعهم وخروجهم عن جماعة أهل الإيمان ، و وقوعهم في البغي والعدوان، الذي تستقبحه وتستنكره شريعة الرحمان .
ومن ذلك ما عليه الفئة الحدادية السرورية ( خارجية عصرية) ، أصبحت هذه المخالفة من أظهر علاماتها البارزة على صفحات منهجها الغالي الجافي الذي ظهر تجلده وتصلبه في عداوته للمنهج السلفي ، وفي إسقاط مشايخه وعلى رأسهم الإمام الألباني و المحدث بقية السلف ربيع بن هادي المدخلي ، وهذا لا يستغرب منه ، فهو ممدود بإيعازات المنهج القطبي ، ومدعم بمخططه الإرهابي ، الذي أسس منهجه على تكفير أهل الإسلام ، والخروج على الحكام ، وقد استمد المنهج الحدادي الخبيث منه هذه البدعة الخارجية وطورها وألبسها اللباس السلفي المتمثل في الدفاع عن عقيدة الإيمان ـ زعم ـ،وما ذاك منه إلا لكي يحافظ على كيانها وهيمنة رجالها ،وقد ظهرت هذه الحقيقة في قواعده التي اخترعوها وأساليبه التي اتخذوها
ومن ذلك إثارتهم مسألة جنس العمل ، الذي قال عنه الإمام ربيع المدخلي :" هو سلاح خبيث من أسلحة التكفيريين ليدعموا به منهجهم التكفيري "
وإثارتهم مسألة العذر بالجهل ومخالفتهم لأئمة السنة في ذلك ، ليتوصلوا إلى تكفير أهل الإسلام والطعن في أئمتهم الكرام .
وتشغيبهم على أحاديث الشفاعة ، ولهم طريقة عجيبة في إسقاط مدلولاتها وما دلت عليه من العقيدة وسار عليه أهل السنة والجماعة، لأنها لا تخدم منهجهم التكفيري الضال ، إذ أنها تدل دلالة واضحة على العذر بالجهل ، وعلى رحمة الموحد العاصي الذي يسعى الخوارج إلى تكفيره وإخراجه من الإسلام ، ومنعه من استحقاق الشفاعة ، وإغلاق عليه باب الرحمة والسعة .
فنرجو من القارئ الكريم أن يقف معنا وقفات يسيرة لندرس بعض وسائل مصنعهم الخبيث الذي أصبح لا ينتج إلا ما يضر الجو الإسلامي ويعكر صفاء الصف السلفي .

الوسيلة الأولى : حكمهم على أحاديث الشفاعة بأنها من المتشابه

قال الغامدي في مقاله (مقال جديد لربيع المدخلي حول أحاديث الشفاعة وفهمه للاستسلام لها) زاعما أنه يرد على الشيخ ربيع ، مقررا عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان والشفاعة : ((وقد بدأت بحمد الله في الرد على ما قاله من استدلالات مخالفة لعقيدة أهل السنة في مسألة الإيمان واتبع فيها المتشابه من النصوص والله المستعان ولاحول ولاقوة إلا بالله ))
أقول
البيان الأول : إن أحاديث الشفاعة هي من المحكم في معناها واضحة اللفظ والدلالة ، قد قررها الشارع أيما تقرير مما يجب معه الإيمان والتسليم والقبول ويزيل الإشكال .
فهل يشتبه على أحد قوله صلى الله عليه وسلم :"كانَ رجلٌ ممَّن كان قبلكم لم يعمل خيراً قطُّ؛ إلا التوحيد، فلما احتُضر قال لأهله: انظروا: إذا أنا متُّ أن يحرِّقوه حتى يدعوه حمماً، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم ريح، [ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله؛ لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين] ، فلما مات فعلوا ذلك به، [فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه] ، فإذا هو [قائم] في قبضة الله،فقال الله عز وجل: يا ابن آدم! ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي ربِّ! من مخافتك (وفي طريق آخر: من خشيتك وأنت أعلم) ، قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيراً قطُّ إلا التوحيد" ([1]) ، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام في حديث الشفاعة الطويل من رواية حذيفة بن اليمان عن أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : يَقُولُ اللَّهُ ـ جَلَّ وَعَلَا ـ: (أَنَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أدْخلوا جَنَّتِي مَنْ كَانَ لَا يُشرك بِي شَيْئًا فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ ـ تَعَالَى ـ: انْظُرُوا فِي النَّارِ هَلْ فِيهَا مِنْ أحدٍ عَمِلَ خَيْرًا ـ قَطُّ ـ؟ فَيَجِدُون فِي النَّارِ رَجُلاً فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا ـ قطُّ ـ فَيَقُولُ: لَا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُسامح النَّاسَ فِي الْبَيْعِ فَيَقُولُ اللَّهُ: اسْمَحُوا لِعَبْدِي كإسْمَاحه إِلَى عَبِيدِي ثُمَّ يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا ـ قطُّ ـ؟ فَيَقُولُ: لَا غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أمَرْتُ ولدي إذا مِتُّ فاحْرِقُوني بالنار ثُمَّ اطْحَنُوني حَتَّى إِذَا كُنْتُ مِثْلَ الكُحْلِ فَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْبَحْرِ فَذُرُّوني فِي الرِّيحِ فَقَالَ اللَّهُ: لِمَ فعلتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ مَخَافَتِكَ فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى مَلِكٍ أَعْظَمِ مَلِكٍ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهُ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ فَيَقُولُ: لِمَ تَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟ فَذَلِكَ الَّذِي ضَحِكْتُ منه من الضحى) ([2])
أن الله تعالى يخرج من النار برحمته ومغفرته من لم يعمل خيرا قط ، وذلك لما معه من التوحيد ؟!
فهذه الأحاديث مما أوجب الله تعالى على الأمة كافة الإيمان بها وتصديقها والأخذ بظواهرها ، والعمل بما دلت عليه من العذر بالجهل ، والكف عن تكفير أهل التوحيد ، وإثبات صفة الرحمة والمغفرة والعفو ، ورجاء رحمة الله التي سبقت غضبه ، والتنبيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرح ويضحك ويبتهج بما يبلغه ويرجع على أمته المحمدية من الخير في الدنيا والآخرة .
فمن أذعن للعمل بهذه الأحاديث وآمن بها وصدقها أوجبت له الرحمة لقوله صلى الله عليه وسلم " الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، إنما الشقي من أدعى أنها من المتشابه وسعى إلى تعطيل مدلولاتها ليتوصل إلى تكفير الأمة الموحدة وعدم إعذار الجاهل منهم .
الثاني : قد اخترعت الجهمية والمعتزلة وتبعهم على ذلك الأشاعرة بدعة رد الأحاديث الصحيحة في باب العقيدة إذا لم تبلغ حد التواتر وقالوا : أنها لا تفيد اليقين وإنما تفيد الظن ، وغرضهم من ذلك تعطيل العقيدة الإسلامية ، والمصيبة أن هذه الضلالة امتدت إلى جحود وإنكار قضايا عقدية تبلغ أدلتها حد التواتر، مثل: أحاديث نزول عيسى، وخروج الدجـال، وطلوع الشمس من مغربها، وأحاديث المهدي، وغيرها مما يؤدي إنكاره إلى هدم عقيدة الإسلام من أساسها، بل بعضها تطابقت في الدلالة عليها نصوص الكتاب والسنّة، مثل: رؤية الله في الدار الآخرة ، وبإزائها اخترعت أيضا القاعدة الضالة " كل ما لم يوافق العقل وكل ما لم يوافق الذوق من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب رده " لخدمة الغرض السابق فكم هدمت بها من الأحاديث العظيمة وأهينت بها من السنة الصحيحة ، وقد فرح أعداء الإسلام من يهود ومستشرقين بهاتين الضلالتين لخدمة مخططاتهم الشيطانية ([3]) ، ولم تقف حرب أعداء السنة عند هاتين القاعدتين الضالتين لإطاحة بالعقيدة السلفية ، فلا يزال تنبت النابتات الجديدة تنشئ من القواعد الخبيثة ما يخدم تلك البدع والضلالات الخلفية ، ومن ذلك ما اخترعته الحدادية في هذه الآونة من قولها " أن أحاديث الشفاعة من قبيل المتشابه ، التي يجب إرجاعها إلى المحكم " ، والمحكم عندها ما دلت عليه عقولهم القاصرة وأحكامهم الجائرة التي يتوصل بها إلى تكفير الأمة الموحدة وعدم العذر بالجهل ، فجعلوا عقيدتهم الخارجية الفاسدة وعقولهم الكاسدة على تلك النصوص المحكمة حكما فأخذوا ما شاؤوا وردوا ما شاؤوا ، وأثبتوا ما شاؤوا وبتروا ما شاؤوا، فهنيئا لسلفهم الخوارج والمعتزلة بهذا التقعيد !!


الوسيلة الثانية : كتمان الحق وبتر من ألفاظ حديث الشفاعة ما هو حجة عليهم

قد سلك الحدادية وعلى رأسهم الغامدي في تقرير بدعته الخبيثة مسلك كتمان الحق وبتر ألفاظ أحاديث الشفاعة التي تكشف بدعته وتهدم ما يسعى إلى بنائه ، فهو يتحاشى من أن يذكر في مقالاته وتقريراته ، قول الله -عزّ وجل-: "شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط"، التي تدل دلالة واضحة على أن الموحدين يخرجون من النار بتوحيدهم ، وإن كانوا من تاركي الأعمال ([4] ) .
وإن ذكرها هو وأتباعه ـ وهذا على النادر ـ تحملهم على ذكرها الضرورة لانتشارها في الأمة ، وخشية الفضيحة عند الخاصة والعامة ، ولما ألزمهم به أهل السنة ، فتضطرهم هذه العوامل إلى ذكرها ولكن يبعدونها عن معناها الصحيح الذي أراده منها أئمة الحديث والأثر كما سنبين ذلك .
ولا يخفى على الأمة أن هذا المسلك هو من اظهر علامات أهل البدع والأهواء لتسليك باطلهم في المجتمعات الإسلامية .
قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في درء تعارض العقل والنقل (1/ 221) : (( لا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه.))
أما أهل السنة والعلم فيكتبون ما لهم وما عليهم ، ويجمعون ما في الباب ويرجعون في فهمها إلى فهم أهل الحديث والآثار الذين نقلوا لنا تلك الأخبار .

الوسيلة الثالثة : عدم انتحالهم فهم السلف ومعاملتهم لأحاديث الشفاعة

إن من أصول أهل السنة والجماعة هو انتحال فهم السلف الصالح والتمسك بما كانوا عليه من الأصول ، وإعمال هذا الأصل ينجي صاحبه من الفتن ومن مضلة أفهام و مزلة أقدام ورد أحكام الإسلام والخروج عن فهم الأعلام .
ومن شعار أهل البدع ترك انتحال مذهب السلف وترك أخذ الأحاديث والآثار التي تخالف آراءهم وأهواءهم ، وإن كانوا قد يتظاهرون بتعظيم أئمة الإسلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (4/ 154) : (( وَالْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا تُفَسِّقُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ طَوَائِفَ وَتَطْعَنُ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَفِيمَا رَوَوْهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُخَالِفُ آرَاءَهُمْ وَأَهْوَاءَهُمْ بَلْ تُكَفِّرُ أَيْضًا مَنْ يُخَالِفُ أُصُولَهُمْ الَّتِي انْتَحَلُوهَا مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَهُمْ مِنْ الطَّعْنِ فِي عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَفِي عِلْمِهِمْ مَا لَيْسَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَلَيْسَ انْتِحَالُ مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ شَعَائِرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا يُقَرِّرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ. وَيُعَظِّمُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَجُمْهُورِهِمْ مَا لَا يُعَظِّمُهُ أُولَئِكَ فَلَهُمْ مِنْ الْقَدْحِ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ... فَعُلِمَ أَنَّ شِعَارَ أَهْلِ الْبِدَعِ: هُوَ تَرْكُ انْتِحَالِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ. وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِسَالَةِ عبدوس بْنِ مَالِكٍ:" أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.)) ا.هـ
فمن تأمل الفئة الحدادية وبدعتها ونحلتها وجد أن من أبرز علاماتها ترك انتحال مذهب السلف في فهم أحاديث الشفاعة ، وإن كانت قد تعرج على بعض نقول أئمة السنة في هذه المسألة ، وتتظاهر بتعظيم أهلها ، ولكن عند التحقيق والتحرير لصنيعها هذا يجدها بعيدة كل بعد عن ما كان عليه السلف علما وعملا ، وذلك من وجوه .
الوجه الأول : قد أوجب الله تعالى على الأمة عند التنازع أن ترجع تنازعها إلى الكتاب والسنة والإجماع ، لا أن يحتج بقول الخصم الذي قوله ليس بحجة على من خالفه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (26/ 202) : (( لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَحْتَجَّ بِقَوْلِ أَحَدٍ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَدَلِيلٌ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ ذَلِكَ تُقَرَّرُ مُقَدِّمَاتُهُ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِأَقْوَالِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ؛ فَإِنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ يُحْتَجُّ لَهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. ))
ومن ذلك ما نحن بصدد بيانه ، فأهل السنة والجماعة قد اتفقت كلمتهم على أن الأعمال من الإيمان ، وأنه لا يقدم على الحكم بتكفير المعين إلا بعد النظر في أمرين:
الأمر الأول: دلالة الكتاب والسنة على أن هذا مكفر لئلا يفتري على الله الكذب.
الثاني: انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع.([5])
وإذا أعملنا هذه الأصول فيما عليه الحدادية من معاملتها لأهل السنة ولعلمائها الفحول ، والنظر إلى قربها وبعدها من تطبيق هذه الأصول ، وجدناها مخالفة لها كل مخالفة:
المخالفة الأولى : رميهم لأهل السنة بالإرجاء وعلى رأسهم أئمتهم وحماة دينهم الإمام الألباني والمحدث بقية السلف ربيع بن هادي المدخلي مع أن هذين الإمامين دعوتهما قد عرفها القاصي والداني من أنها على منهج أهل السنة والجماعة ، أهل الحديث والأثر في علمها وعقيدتها ومنهجها وأخلاقها وأحكامها ، فهي تنفجر وتنضح بالعلم والعمل والدعوة إلى ذلك ، حتى وصل بالحزبية والمميعة أن رموهم بالتشدد لصلابتهما في السنة الغراء ووقوفهما في وجه جميع أهل البدع والأهواء ، وصدق الإمام ربيع المدخلي إذ يقول وهو يدافع عن الإمام الألباني ، ومبين هذه الفرية البائرة والكذبة الجائرة : (( الألباني حارب البدع كلها صغيرها وكبيرها ، لا يستثني بدعة من البدع وعلى رأسها الإرجاء ، وقد حاربه في العديد من كتبه ، وحتى إنه قد يتساهل بعض الأئمة فيقولون : الخلاف بيننا وبين مرجئة الفقهاء صوري أو لفظي ، فيقول : لا الخلاف جوهري ، ويشد على من يقول الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، يقول : هؤلاء يخالفون الكتاب والسنة ، نصوص الكتاب والسنة التي تنص على زيادة الإيمان وعلى نقص الإيمان ويتكلم ويشد عليهم .
لكن هؤلاء : الحلول ، وحدة الوجود ، سب الصحابة ، القول بالاشتراكية ، القول بخلق القرآن ، والبدع المكفرة الكثيرة ، هذه لا تضر عندهم ، والله لو عرضت هذه البدع على غلاة المرجئة لرأيت الحماس لدين الله والغيرة لدين الله ، هؤلاء : لا ، فمن يصدق إنهم يحاربون الإرجاء ؟ وهذا حالهم .
فافهموا هذا بارك الله فيكم ، وبرأ الله الألباني من الإرجاء )) ([6])
المخالفة الثانية : زعم الحدادية أن الإمامين الألباني وربيعا المدخلي ومن سلك مسلكهما واتبع منهجهما يؤخرون الأعمال عن مسمى الإيمان ، وأنهم يدعون إلى ترك شريعة الرحمان ، ولا يكفرون أهل الإلحاد والأوثان ، كبرت كلمة تخرج من أفواه أهل الطغيان .
فالشيخان الألباني والمدخلي على منهج أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون أحدا من الأمة ولا يخرجونه من الإسلام ، إلا من دل على كفره الكتاب والسنة ، والتي منها :
قال الإمام ابن قدامة مبينا حكم من جحد أركان الإسلام ومنها الصلاة ممن كان لا يجهل مثله ذلك : ( لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا، إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْوُجُوبَ، كَحَدِيثِ الْإِسْلَامِ، وَالنَّاشِئِ بِغَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ، وَعُرِّفَ ذَلِكَ، وَتُثْبَتُ لَهُ أَدِلَّةُ وُجُوبِهَا، فَإِنْ جَحَدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ. وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَاحِدُ لَهَا نَاشِئًا فِي الْأَمْصَارِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ جَحْدِهَا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَبَانِي الْإِسْلَامِ كُلِّهَا، وَهِيَ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ؛ لِأَنَّهَا مَبَانِي الْإِسْلَامِ، وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا لَا تَكَادُ تَخْفَى، إذْ كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَشْحُونَيْنِ بِأَدِلَّتِهَا، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهَا، فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا مُعَانِدٌ لِلْإِسْلَامِ، يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ، غَيْرُ قَابِلٍ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا إجْمَاعِ أُمَّتِهِ. )) ([7])
ومنها : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ إذَا كَانَ فِعْلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَرْكَ الْإِيمَانِ وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ مِثْلَ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ؛ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِ الْحُرُمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ.)) ([8])
ومنها : قال الإمام عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ في رسالته ( الإنكار على من كفر المسلمين بغير ما أجمع عليه الفقهاء) ([9]) مبينا أن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ : ((أنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا فيما يستحقه على خلقه من العبادات والإلهية. وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان ... إن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته -وحده لا شريك له-، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. )) ([10])
فالشيخان تنضح كتبهم وأشرطتهم بهذا المعتقد وإقرار ما قاله هؤلاء الأئمة في هذه المسألة ، إلا أنه قبل أن يهجم على التكفير من وقع في هذه المكفرات ينبغي مراعاة الضابط التالي
الثالثة : انطباق الحكم على الشخص المعين بحيث تتم شروط التكفير في حقه، وتنتفي الموانع ، والتي من أهمها
أنه لا يحكم على معين بكفر حتى تقوم عليه الحجة التي دل عليها الكتاب والسنة .
قال الإمام عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ : (( لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر ))
وهذا الذي لم يرفع به الحدادية رأسا وسعوا إلى هدم معتقده وتخريب أحاديثه والتشغيب على أهله ورميهم بالتجهم والإرجاء وبكل فرية ، وقالوا عنهم بأنهم يقولون : بترك الأعمال بكلية وأنها ليست من الإيمان ، وهذا من أبطل الباطل وأكبر الدجل الذي عُرف به القوم ، وأصبح من أبرز سماتهم .
فأهل السنة والحديث قديما وحديثا لم يختلفوا فيما قرره وبينه الأئمة الثلاثة ابن قدامة وابن تيمية و عبداللطيف ـ رحمهم الله ـ من الأعمال التي توجب كفر صاحبها مع مراعاتهم للضابط الثاني ، إلا أنه ينبغي لك يا أيها القارئ أن تكون على إطلاع وعلى علم بأنه هنالك من أعمال غير ما ذكره هؤلاء الأئمة الذين نقلت عنهم تلك النصوص في تقرير هذه المسألة العظيمة ، قد اختلف فيها أئمة السنة والجماعة قديما وحديثا ، هل توجب على تاركها الكفر أم لا ، والتي من أهمها تارك الصلاة تهاونا وكسلا ، فمن العلماء والفقهاء من يرى أن تاركها يكفر ، وبالتالي لا يدخلونه في أهل الشفاعة لكفره ، ومنهم من يرى أنه لا يكفر ولا يخرجونه من الإسلام بهذا الترك ولا يحرمونه من الشفاعة ورحمة الراحمين يوم القيامة، وإذا كان الأمر كذلك فلا يأتي أتي ويحتج بأقوال من يرى كفر تاركها للطعن في من لا يرى تاركها يكفر ويرميه بالإرجاء والتجهم ، كما هو عليه صنيع الحدادية .
قال الإمام المحقق ربيع المدخلي : (( ملاحظة: الذين يُكفرون تارك الصلاة ويخرجونه من ملة الإسلام لا يعتقدون أن له عملاً صالحاً ويعتقدون أنه مخلد في النار، ولم يجعلوا تارك العمل نوعاً آخر (كما هو صنيع الحدادية القطبية) ، ومع ذلك فهم (أي أهل السنة) يحترمون إخوانهم من أهل السنة والحديث الذين لا يكفرون تارك الصلاة، ويرون كبارهم من أئمة الإسلام ، كما أن الذين لا يكفرون تارك الصلاة يحترمون إخوانهم الذين يكفرونه فلا يطعنون فيهم ، لأن لكل طرف أدلته؛ إذ تارك الصلاة تتجاذبه الأدلة وكلهم مجتهدون يصدق عليهم الحديث الصحيح: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ"، أخرجه البخاري في "صحيحه" حديث (7352)، ومسلم في"صحيحه" حديث (1716).
فكل طرف يرى أنه قد أصاب في اجتهاده وفي الوقت نفسه يرى أن أخاه وإن أخطأ فإنه مأجور على اجتهاده مغفور له خطؤه ، والطائفة الحدادية جهلت هذا المنهج أو أنها تتجاهله ، ومن هذا الباب أو ذاك انطلقتْ إلى حرب أهل السنة تضللهم وترميهم بالإرجاء، وبعضهم يرميهم بالتجهم.
ثم اخترعوا إلى جانب تارك الصلاة تارك العمل، فصار لهم سلاحان يحاربون بهما أهل السنة ، وهذا من جهلهم أو من إمعانهم في حرب أهل السنة والحديث، ذلك الأمر الذي لم يخطر ببال غلاة الخوارج.
ثم إنَّ أهل السنة المكفرين لتارك الصلاة لا يعتقدون أن له عملاً صالحاً مقبولاً عند الله ، ومع اعتقادهم هذا لم يطعنوا في إخوانهم الذين لم يكفروا تارك الصلاة كما أسلفنا ، فظهر أن المنهج الحدادي بعيد كل البعد عن منهج أهل السنة المكفرين لتارك الصلاة. )) ([11])
لك يا أيها القارئ الكريم أن تتأمل في كلام الإمام ربيع المدخلي حق التأمل وتتذوق تقريره الماتع ، لتقف على مدى بُعد الحدادية عن منهج السلف في الاستدلال والفهم في تقرير هذه المسألة ، ولتعرف أن تلك النقول التي ملؤوا بها مقالاتهم و صفحات منتداهم التي يقرر فيها أصحابها تكفير تارك الصلاة لست حجة على من يرى عدم كفره وأنه ممن تشمله الشفاعة ورحمة الراحمين ، وبهذا يسقط استدلالهم وينكشف تلاعبهم بكلام أئمة السنة للطعن في إخوانهم وتلامذتهم أهل السنة .
الوجه الثاني : قد فهم بعض أئمة السنة وفقهاء الأمة من حديث "لم يعملوا خيراً قط" أن ذلك في حق من آمن ثم مات من قبل أن يتمكن من العمل ، أو أنه مقيد بالنصوص الدالة على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار ([12])
وفهم منها غيرهم من الأئمة أنها في حق من أتى بالأصول التي نبها عليها الأئمة الثلاثة العدول (ابن قدامة وابن تيمية و عبداللطيف) ، ولكنه أخل وقصر بالإتيان بالأعمال الأخرى التي يراها الطرف الأول أنها من الكفر ، ولكن لا يراها هذا الطرف الثاني أنها من الكفر مثل الصلاة ، فرجع اختلافهم في فهم هذه الأحاديث إلى اختلافهم في أصل تلك الأعمال هل هي من الكفر أم لا ؟
وعليه فإذا عذر الأئمة وقدوة الأمة بعضهم البعض في اجتهادهم في الحكم على تارك الصلاة هل هو كافر أم لا ؟ مع أنها من أصول دين الإسلام ([13]) ومبانيه العظام فمن باب أولى أن يعذر بعضهم البعض في هذه المسألة التي هي مبنية ومتفرعة عن ذلك الاختلاف في الأفهام .
وإذا كان الأمر كذلك فما عليك يا أيها الطالب اللبيب إلا أن تنظر في أدلة وأقوال الطرفين وتحررها وتحققها للتخطئة أو التصويب ، وإياك وطرائق أهل التشغيب الذين عجزوا عن التحقيق والتنقيب .
فمما جاء في هذا الباب من النصوص في تقرير هذه المسألة حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كانَ رجلٌ ممَّن كان قبلكم لم يعمل خيراً قطُّ؛ إلا التوحيد، فلما احتُضر قال لأهله: انظروا: إذا أنا متُّ أن يحرِّقوه حتى يدعوه حمماً، ثم اطحنوه، ثم اذروه في يوم ريح،[ثم اذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر، فوالله؛ لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين] ، فلما مات فعلوا ذلك به،[فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه]، فإذا هو [قائم] في قبضة الله،فقال الله عز وجل: يا ابن آدم! ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي ربِّ! من مخافتك (وفي طريق آخر: من خشيتك وأنت أعلم)، قال: فغفر له بها، ولم يعمل خيراً قطُّ إلا التوحيد" ([14]).
فهذا الحديث العظيم الشريف هو أصل في هذه المسألة ، وهو يحتوي على عدة فوائد و أحكام في تقرير ما نحن بصدد بيانه ، والتي منها :
1 ـ إثبات إيمان وتوحيد الرجل لقول الله عز وجل: " يا ابن آدم! ما حملك على ما فعلت؟ قال: أي ربِّ! من مخافتك (وفي طريق آخر: من خشيتك وأنت أعلم)، "
قال الإمام ابن عبدالبر ـ رحمه الله ـ في الاستذكار (3/ 95) : (( وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ مُؤْمِنًا قَوْلُهُ حِينَ قَالَ لَهُ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ وَالْخَشْيَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ يُصَدِّقُ بَلْ مَا تَكَادُ تَكُونُ إِلَّا مِنْ مُؤْمِنٍ عَالِمٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[ فَاطِرَ: 28] )) ا.هـ
وأيضا مما يثبت إيمانه قوله :" فوالله؛ لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين"
قال ابن عبدالبر ناقلا بعض كلام العلماء في تأويل هذه اللفظة : ((لِلْعُلَمَاءِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مِنَ التَّقْدِيرِ وَالْقَضَاءِ وَالْآخَرُ أَنَّهَا مِنَ التَّقْتِيرِ وَالتَّضْيِيقِ ...
وَالْمَعْنَى فِي قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَئِنْ ضَيَّقَ اللَّهُ عَلَيَّ وَبَالَغَ فِي مُحَاسَبَتِي وَلَمْ يَغْفِرْ لِي وَجَازَانِي عَلَى ذُنُوبِي لَيَكُونَنَّ مَا ذَكَرَ
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : كَأَنَّهُ قَالَ لَئِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي قَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ أَنْ يُعَذِّبَ كُلَّ ذِي جُرْمٍ عَلَى جُرْمِهِ لَيُعَذِّبَنَّنِي عَلَى ذُنُوبِي عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ غَيْرِي .
وَهَذَا مِنْهُ خَوْفٌ وَيَقِينٌ وَإِيمَانٌ وَتَوْبِيخٌ لِنَفْسِهِ وَخَشْيَةٌ لِرَبِّهِ وَتَوْبَةٌ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِهِ هَذَا كُلُّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمُؤْمِنٍ مُصَدِّقٍ مُؤْمِنٍ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ )) ([15])
2 ـ إثبات العذر بالجهل في العقيدة
قال الإمام ابن عبدالبر : (( قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ بَعْضَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ الْقُدْرَةُ .
قَالُوا : وَمَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَآمَنَ بِهِ وَعَلِمَ سَائِرَ صِفَاتِهِ أَوْ أَكْثَرَ صِفَاتِهِ لَمْ يَكُنْ بِجَهْلِهِ بَعْضَهَا كَافِرًا وَإِنَّمَا الْكَافِرُ مَنْ عَانَدَ الْحَقَّ لَا مَنْ جَهِلَهُ ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ : وَمِنْهَا قَوْلُ الله عز وجل :{يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}[آل عمران: 70] ، وقال :{يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[ آلِ عِمْرَانَ] ، وَقَالَ :{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[ آلِ عِمْرَانَ: 75] ، وَقَالَ :{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[الْبَقَرَةِ: 2] ، وَقَالَ :{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لقومه يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}[ الصَّفِّ: 5] ، وَقَالَ :{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}[ النَّمْلِ 14:] ، فَهَذَا هُوَ الْكُفْرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ فِي الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ وَالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بِهَا كَافِرًا إِذَا كَانَ مُصَدِّقًا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَغَيْرَهُ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقَدَرِ وَمَعْنَاهُ قِدَمُ الْعِلْمِ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَفِي ذَلِكَ يَجْرِي خَلْفَهُ لَا فِيمَا يُسْتَأْنَفُ بَلْ مَا قَدْ جَفَّ بِهِ الْقَلَمُ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسَطَّرٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ مَا أَخْطَأَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ فِي حِينَ سُؤَالِهِمْ وَقَبْلَهُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ... وَلَا يَسَعُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ لَا يَسَعُهُ جَهْلُ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ قِدَمُ الْعِلْمِ لِعِلْمِهِمْ بِذَلِكَ مَعَ الشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ وَيَجْعَلُهُ عَمُودًا سَادِسًا لِلْإِسْلَامِ )) ([16])
3 ـ إدراك رحمة الله تعالى ومغفرته لعباده الموحدين الذين لم يشركوا بالله شيئا ولم يكفروا ، وأن لم يعملوا خيرا قط .
قال ابن عبدالبر : (( وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ فِي إِيمَانِ هَذَا الرَّجُلِ وَالْأُصُولُ كُلُّهَا تُعَضِّدُهَا وَالنَّظَرُ يُوجِبُهَا لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِلَّذِينِ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَقَالَ {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}[ الْأَنْفَالِ: 38] فَمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ شِرْكِهِ وَمَاتَ عَلَى كُفْرٍ لَمْ يَكُ مَغْفُورًا لَهُ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}[ النِّسَاءِ 18] )) ([17])
قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الصحيحة (7/ 111 ـ 116) بعدما نقل كلام ابن عبدالبر هذا :((هذا كله كلام الحافظ ابن عبد البر، وهو كلام قوي متين يدل على أنه كان إماماً في العلم والمعرفة بأصول الشريعة وفروعها، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وخلاصته؛ أن الرجل النباش كان مؤمناً موحداً، وأن أمره أولاده بحرقه ...
إنما كان إما لجهله بقدرة الله تعالى على إعادته- وهذا ما أستبعده أنا- أو لفرط خوفه من عذاب ربه، فغطى الخوف على فهمه؛ كما قال ابن الملقن فيما ذكره الحافظ (11/314) ، وهو الذي يترجح عندي من مجموع روايات قصته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسواء كان هذا أو ذاك؛ فمن المقطوع به أن الرجل لم يصدر منه ما ينافي توحيده، ويخرج به من الإيمان إلى الكفر؛ لأنه لو كان شيء من ذلك لما غفر الله له؛ كما تقدم تحقيقه من ابن عبد البر.
ومن ذلك يتبين بوضوح أنه ليس كل من وقع في الكفر من المؤمنين وقع الكفر عليه وأحاط به.
ومن الأمثلة على ذلك: الرجل الذي كان قد ضلت راحلته، وعليها طعامه وشرابه، فلما وجدها قال من شدة فرحه:"اللهم! أنت عبدي وأنا ربك " !
وفي ذلك كله رد قوي جداً على فئتين من الشباب المغرورين بما عندهم من علم ضحل:
الفئة الأولى: الذين يطلقون القول بأن الجهل ليس بعذر مطلقا؛ حتى ألف بعض المعاصرين منهم رسالة في ذلك! والصواب الذي تقتضيه الأصول والنصوص التفصيل؛ فمن كان من المسلمين يعيش في جو إسلامي علمي مصفى، وجهل من الأحكام ما كان منها معلوماً من الدين بالضرورة- كما يقول الفقهاء- فهذا لا يكون معذوراً؛ لأنه بلغته الدعوة وأقيمت الحجة.
وأما من كان في مجتمع كافر لم تبلغه الدعوة، أو بلغته وأسلم؛ ولكن خفي عليه بعض تلك الأحكام لحداثة عهده بالإسلام، أو لعدم وجود من يبلغه ذلك من أهل العلم بالكتاب والسنة؛ فمثل هذا يكون معذوراً. ومثله- عندي- أولئك الذين يعيشون في بعض البلاد الإسلامية التي انتشر فيها الشرك والبدعة والخرافة، وغلب عليها الجهل، ولم يوجد فيهم عالم يبين لهم ما هم فيه من الضلال، أو وجد ولكن بعضهم لم يسمع بدعوته وإنذاره؛ فهؤلاء أيضاً معذورون بجامع اشتراكهم مع الأولين في عدم بلوغ دعوة الحق إليهم؛ لقوله تعالى:{لأنذركم به ومن بلغ} ، وقوله:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} ، ونحو ذلك من الأدلة التي تفرع منها تبني العلماء عدم مؤاخذة أهل الفترة؛ سواء كانوا أفراداً أو قبائل أو شعوباً؛ لاشتراكهم في العلة؛ كما هو ظاهر لا يخفى على أهل العلم والنُّهى..
والفئة الثانية: نابتة نبتت في هذا العصر؛ لم يؤتوا من العلم الشرعي إلا نزراً يسيراً، وبخاصة ما كان منه متعلقاً بالأصول الفقهية، والقواعد العلمية المستقاة من الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومع ذلك؛ اغتروا بعلمهم فانطلقوا يبدِّعون كبار العلماء والفقهاء، وربما كفروهم لسوء فهم أو زلة وقعت منهم، لا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة ، فلم يشفع عندهم ما عرفوا به عند كافة العلماء من الإيمان والصلاح والعلم ...
فإني أنصح أولئك الشباب أن يتورعوا عن تبديع العلماء وتكفيرهم، وأن يستمروا في طلب العلم حتى ينبغوا فيه، وأن لا يغتروا بأنفسهم، ويعرفوا حق العلماء وأسبقيتهم فيه، وبخاصة من كان منهم على منهج السلف الصالح كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأَلْفِتُ نظرهم إلى " مجموع الفتاوى " فإنه " كُنَيْف مُلِىءَ علماً "، وبخاصة إلى فصول خاصة في هذه المسالة الهامة (التكفير) ، حيث فرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين، وقال في أمثال أولئك الشباب:"ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين؛ إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع. يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ".
يعني الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق. ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة؛ وأمثالهم.
فأقول: وملاحظة هذا الفرق هو الفيصل في هذا الموضوع الهام، ولذلك فإني أحث الشباب على قراءته وتفهمه من "المجموع " (12/464- 501) الذي ختمه بقوله:"وإذا عُرف هذا؛ فتكفير (المعين) من هؤلاء الجهال وأمثالهم- بحيث يحكم عليه أنه من الكفار- لا يجوز الإقدام عليه؛ إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت مقالتهم لا ريب أنها كفر ـ يعني: الدعاة إلى البدعة ـ .
وهكذا الكلام في تكفير جميع (المعينين) ؛ مع أن بعض هذه البدع أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض. فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين- وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة ".
هذا؛ وفي الحديث دلالة قوية على أن الموحد لا يخلد في النار؛ مهما كان فعله مخالفاً لما يستلزمه الإيمان ويوجبه من الأعمال؛ كالصلاة ونحوها من الأركان العملية، وإن مما يؤكد ذلك ما تواتر في أحاديث الشفاعة؛ أن الله يأمر الشافعين بأن يخرجوا من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان. ويؤكد ذلك حديث أبي سعيد الخدري أن الله تبارك وتعالى يخرج من النار ناساً لم يعملوا خيراً قط.)) ا.هـ
قلت ( بشير) : حق أن نقول في كلام وبيان الإمام الألباني هذا:" قطعت جهيزة قول كلّ خطيب " ، فليس بعد كلامه هذا في تقرير هذه المسألة من كلام وبيان ، فهو خلاصة ما بينته في صفحاتي هذه ، ورد قوي على تشغيبات الغامدي والحدادية الأشري ، فكلامه هذا ينسف بدعتهم من جذورها ، ويهدم سقوفها ، ويزلزل عروشها ، لهذا تجدهم يتألمون من الإمام ، ويتساقطون مع مقالاته ، وقد أعيتهم حججه السلفية الأثرية من مقاومتها ومواجهتها والرد عليها ، فما وجدوا إلا أن يرموه ويرموا كل من قام مقامه بالإرجاء الذي برأ نفسه منه ، رادا على من رماه به قائلا:(( وإن كان قد اقترن به أحياناً شيء من الغلو والمخالفة؛ والاتهام بالإرجاء؛ مع أنه يعلم أنني أخالفهم مخالفة جذرية؛ فأقول: الإيمان يزيد وينقص؛ وإن الأعمال الصالحة من الإيمان، وإنه يجوز الاستثناء فيه؛ خلافاً للمرجئة، ومع ذلك رماني أكثر من مرة بالإرجاء! فقلب بذلك وصية النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها.. "! فقلت: ما أشبه اليوم بالبارحة!
فقد قال رجل لابن المبارك: " ما تقول فيمن يزني ويشرب الخمر؛ أمؤمن هو؟ قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال الرجل: على كبر السن صرت مرجئاً! فقال له ابن المبارك: إن المرجئة لا تقبلني! أنا أقول: الإيمان يزيد وينقص. والمرجئة لا تقول ذلك. والمرجئة تقول: حسناتنا متقبلة. وأنا لا أعلم تُقبلت مني حسنة؟ وما أحوجك إلى أن تأخذ سبورة فتجالس العلماء ". رواه ابن راهويه في "مسنده " (3/670- 671) .
قلت: ووجه المشابهة بين الاتهامين الظالمين هو الإشراك بالقول مع المرجئة في بعض ما يقوله المرجئة؛ أنا بقولي بعدم تكفير تارك الصلاة كسلاً؛ وابن المبارك في عدم تكفير مرتكب الكبيرة ولو أردت أن أقابله بالمثل لرميته بالخروج؛ لأن الخوارج يكفرون تارك الصلاة وبقية الأركان الأربعة! و (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .)) ([18])
فليتفطن علماء السنة الأحياء ـ حفظهم الله ورعاهم ـ لهذه النابتة الخبيثة ولمقاصدها السيئة والتي من أهمها تكفير الأمة وتضليل الأئمة وتعطيل السنة ، وما الشيخ الألباني والشيخ ربيع بن هادي المدخلي ، إن هما إلا واحد من أولئك الأئمة الذين ينقل الشيخان عنهم عقيدة أهل السنة والجماعة في تقرير الشفاعة وفقه أحاديثها الماتعة ، التي يود الخوارج والمعتزلة وأفراخهم اليوم السرورية الحدادية أن تدفن بتشغيباتهم الشنيعة .
وفي ختام هذه الرسالة المتواضعة أتحف القراء الكرام ببعض النقول الماتعة عن أئمة الشريعة التي تدحض أراجيف الحدادية الضائعة مما تشهد بسلامة تقريرات الإمام ربيع بن هادي المدخلي ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ التي متع بها الأمة في رسالته الماتعة (أحاديث الشفاعة الصحيحة تدمغ الخوارج والحدادية القطبية)
1 ـ قال الإمام ابن القيم قال –رحمه الله- في حادي الأرواح (ص272-273): (( الوجه العشرون : أنه قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة فيقول عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما، فيلقيها في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل فيقول أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه، فهؤلاء أحرقتهم النار جميعهم فلم يبق في بدن أحدهم موضع لم تمسه النار بحيث صاروا حمما وهو الفحم المحترق بالنار وظاهر السياق أنه لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، فإن لفظ الحديث هكذا فيقول: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا فيقول الله عز و جل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض الله قبضة من نار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط"، فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ومع هذا فأخرجتهم الرحمة.
ومن هذا رحمته سبحانه وتعالى للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه وتعالى فهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط ومع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك وأنت تعلم فما تلافاه أن رحمه الله، فلله سبحانه وتعالى في خلقه حكم لا تبلغه([19]) عقول البشر وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: (يقول الله عز و جل أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام)".
قال العلامة المحقق شيخنا ربيع المدخلي في رسالته (أحاديث الشفاعة الصحيحة تدمغ الخوارج والحدادية القطبية) معلقا على كلام الإمام ابن القيم هذا : (( الإمام ابن القيم بنى حكمه هنا على حديث أبي سعيد وأيده بحديث هذا الرجل الذي لم يعمل خيراً قط، وأمر أولاده أن يحرقوه...الحديث.
ولا شك أنه يؤمن بأحاديث الشفاعة الأخرى والأحاديث الواردة في فضل لا إله إلا الله وفضل التوحيد.
والذي نعرفه عن ابن القيم أنه كان يرى كفر تارك الصلاة ، لكنه لما وقف أمام حديث أبي سعيد في الشفاعة وما تلاه لم يسعه إلا الاستسلام لها والصدع بمضمونها.)) ا.هـ
2 ـ قال الإمام ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في (التخويف من النار)(ص : 255 256) : (( الباب الثامن والعشرون : في ذكر حال الموحدين في النار وخروجهم منها برحمة أرحم الراحمين وشفاعة الشافعين :
والمراد بقوله: «لم يعملوا خيراً قط» من أعمال الجوارح، وإن كان أصل التوحيد معهم، ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار، إنه لم يعمل خيراً قط غير التوحيد.
خرجه الإمام أحمد، من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ومن حديث ابن مسعود موقوفاً.
ويشهد لهذا، ما في «حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث الشفاعة، قال:
فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن يقول لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي، لأخرجن
من النار من قال: لا إله إلا الله» ، خرجاه في الصحيحين ، وعند مسلم: «فيقول: ليس ذلك لك، أو ليس ذلك إليك» .
وهذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته، من غير شفاعة مخلوق، هم أهل كلمة التوحيد، الذين لم يعملوا معها خيراً قط بجوارحهم، والله أعلم. )) ا.هـ
3 ـ قال الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني ـ رحمه الله ـ في (رفع الأستار)(ص: 132) : (( لفظ الحديث " أنه أخرج بالقبضة من لم يعملوا خيرا قط " فنفى العمل ولم ينف الاعتقاد وفي حديث الشفاعة تصريح بإخراج قوم لم يعملوا خيرا قط ويفيد مفهومه أن في قلوبهم خيرا.)) ا.هـ
4 ـ قال الإمام عبد الرحمن بن حسن ـ رحمه الله ـ في فتح المجيد (ص: 48) : (( تنبيه: قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث "من إيمان" أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح. فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله: "أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط" - يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال. ا.هـ ))
فبهذا النقل عن أولئك الأئمة الكبار في تقرير مسألة ( العذر بالجهل ، وتارك العمل الذي هو دون الشرك) يتضح لك يا أيها القارئ مخالفة الحدادية لهم في الفهم والعمل وإن تظاهروا باحترامهم واتباع منهجهم ، وهذا يكذبه حربهم الشعواء على الإمامين الألباني وربيع المدخلي وأهل السنة الفضلاء ، المتمثلة في الطعن فيهم ورميهم بالإرجاء ، وما ذاك إلا لأنهم أحيوا تراث أولئك الأئمة النبلاء وبيّنوا عقيدتهم الغراء في هذه المسألة التي تفضح منهج التكفيريين وتكشف مخططاته العوجاء ، وإلا فمنهجهم مبني على الطعن في ابن تيمية وابن القيم وكل من صدع بهذه العقيدة السلفية ، كما قال الإمام ربيع المدخلي في مقاله (منهج الحدادية) مبينا أصولهم الفاسدة والتي منها : ((بغضهم لعلماء المنهج السلفي المعاصرين وتحقيرهم وتجهيلهم وتضليلهم والافتراء عليهم ولا سيما أهل المدينة، ثم تجاوزوا ذلك إلى ابن تيمية وابن القيم وابن أبي العز شارح الطحاوية، يدندنون حولهم لإسقاط منزلتهم ورد أقوالهم.))
وبه يتم ما أردت بيانه وكشفه من طرائق الحدادية المبتدعة التي استعملتها في إفساد أحاديث الشفاعة ، مع اعترافي بنقص البضاعة ، نسأل الله أن يلهمنا السداد والتوفيق والرشد في القول والعمل ، وصلى الله على نبينا محمد وآله ، والحمد لله رب العالمين


كتبه الفقير إلى الله : بشير بن عبدالقادر بن سلة الجزائري
14 شعبان 1435 هـ


([1]) السلسلة الصحيحة (7/ 105)
([2]) صحيح ، انظر (التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان)(9/ 212)
([3]) انظر كتاب (حجية خبر الآحاد في العقائد والأعمال)( ص 5)
([4]) انظر كتاب ( أحاديث الشفاعة الصحيحة تدمغ الخوارج والحدادية القطبية) لشيخنا القدوة ربيع المدخلي
([5]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (7/ 42)
([6]) مجموع كتب ورسائل وفتاوى فضيلة الشيخ العلامة ربيع المدخلي (14/426 ـ 427)
([7]) المغني (9/ 11)
([8]) مجموع الفتاوى (20/ 90)
([9]) هذه الرسالة من الإمام من ضمن رسائله التي يرد فيها على التكفيريين الذين الآن الحدادية يقتفون أثارهم ، ويرجفون بشبههم ، ويحيون فتنتهم ، فما أشبه اليوم بالبارحة .
([10]) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3/ 5 ـ 14)
([11]) أحاديث الشفاعة الصحيحة تدمغ الخوارج والحدادية القطبية
([12]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (2/ 48)
([13]) قال الإمام ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ في "شرح الأصول من علم الأصول "(ص 23 ـ 24 ) : (( إن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنكر أن تنقسم أحكام الإسلام إلى أصل وفرع ، وقال : إن هذا التقسيم بدعة ولا أصل له في كلام الله ولا كلام رسوله ، قال : لأن هؤلاء يجعلون الصلاة مثلا من الفروع وهي من أصل الأصول فكيف نقول : أصول وفروع ؟! من جاء بهذا التقسيم ؟! ))
([14]) قال الإمام الألباني في (السلسلة الصحيحة )(7/ 106) : إسناد صحيح متصل عن أبي هريرة، رجاله ثقات رجال مسلم؛ غير أبي كامل، وهو مظفر بن مدرك الخراساني، وهو حافظ ثقة اتفاقاً.
([15]) الاستذكار (3/ 96 ـ 97)
([16]) الاستذكار (3/ 95 ـ 96)
([17]) الاستذكار (3/ 94)
([18]) السلسلة الصحيحة (7/ 153 ـ 154)
([19]) قال شيخنا الإمام ربيع المدخلي عند هذه اللفظة في رسالته (أحاديث الشفاعة الصحيحة تدمغ الخوارج والحدادية القطبية) : والصواب: "لا تبلغها".


كاتب الموضوع
أبوأنس بشير الجزائري
مشاركات: 77
اشترك في: صفر 1436

رد: الأصول النافعة في الذب عن أحاديث الشفاعة وأئمة الشريعة التي يسعى إلى تخريبها الحدادية المبتدعة

مشاركة بواسطة أبوأنس بشير الجزائري »

أجهل القوم وأسفه الناس هم الحدادية ، وشبههم أوهى الشبه ، ليضحك منها السني كما يضحك الفتى ، قد فضحهم غلوهم وتعنتهم وظهرت علامة إنحرافهم بسرعة ، فكم منهم من كان مندسا في الصف السلفي ويحسن به الظن إخواننا ومشايخنا ، وإن كنا لا نطمئن إليهم ولا نرتاح إليهم لما هم عليه من الجفاء وسوء الأداب والغلظة وطعنهم في إخوانهم مثل هذا : الشلالي ونورالدين بن العربي .. ، ظهرت حالهم للخاصة والعامة والله المستعان .
يا أخوتاه الشيخ ربيع بن هادي المدخلي وغيره من إخوانه العلماء الكبار لا يطعن فيهم إلا من رق دينه وبان إنحرافه

أضف رد جديد