الدرس السابع عشر من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 28من شهر جمادى الأولى 1437.

أضف رد جديد

كاتب الموضوع
أم عبدالله الوادعية [آلي]
مشاركات: 1296
اشترك في: جمادى الآخرة 1437

الدرس السابع عشر من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 28من شهر جمادى الأولى 1437.

مشاركة بواسطة أم عبدالله الوادعية [آلي] »

الدرس السابع عشر من /الفصول من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم 28من شهر جمادى الأولى 1437.


بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
فصل ـ بعث بئر معونة
وفي صفرَ هذا بعثَ إلى بئرِ معونة أيضاً، وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدْعو مُلاعب الأسنَّة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فدعاه إلى الإسلام فلم يُسْلِم ولم يبعِد. فقال: يا رسول الله لو بعثتَ أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوتُ أن يجيبوهم، فقال: إني أخاف عليهم أهل نجد، فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم. فبعث صلى الله عليه وسلم فيما قاله ابنُ إسحاق أربعين رجلاً من الصحابة، وفي الصحيحين سبعين رجلاً، وهذا هو الصحيح. وأَمَّر عليهم المنذرَ بنَ عمرو أحدَ بني ساعدة، ولقبه المُعْنِق لِيموتَ رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا من فضلاء المسلمين وساداتهم وقرَّائهم، فنهضُوا فنزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرَّة بني سليم، ثم بعثُوا منها حرامَ بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامرِ بن الطفيل، فلم ينظر فيه، وأمر به فقتله ،ضربهُ رجلٌ بحربة، فلما خرج الدمُ قال: فزتُ ورب الكعبة. واستنفر عدو الله عامر: بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوارِ أبي براء، فاستنفر بني سليم فأجابته عصية ورعل وذكوان، فأحاطوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلوا حتى قُتلوا عن آخرهم رضي الله عنهم، إلا كعب بن زيد من بني النجار فإنه ارتُثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق. وكان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سرح المسلمين، فرأيا الطيرَ تحومُ على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد هذا فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه، وأُسر عمرو بن أمية، فلما أَخبر أنه من مضر جزَّ عامرٌ ناصيته وأعتقه فيما زعم عن رقبةٍ كانت على أمه. ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرةِ من صدر قناة نزل في ظل، ويجيء رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم فنزلا معه فيه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، قال: لقد قتلتَ قتيلَين لأدينَّهما . فكان هذا سبب غزوةِ بني النضير كما ورد هذا في الصحيح .
وزعمَ الزُّهريُّ أنَّ غزوةَ بني النضير بعد بدرٍ بستةِ أشهر ،وليس ذلك كما قال ،بل التي كانت بعد بدرٍ بستةِ أشهرٍ هيَ غزوةُ بني قينقاع ،وأما بنوالنضير فبعد أُحُد ،كما أنَّ قُريظة بعد الخندق ،وخيبربعدَ الحُدَيبية، وغزوةُ الروم عامَ تبوك بعد فتحِ مكة .
وأمر عليه السلام عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب .
********************************
هذا الفصل في وقعة بئر معونة، وكانت هذه الوقعة (في صفرهذا)، أي: السابق الذي وقع فيه بعث الرجيع ،فقد كانا في شهرٍ واحدٍ في السنة الرابعة. ثم ذكر الحافظُ ابن كثير رحمه الله سبب هذه الوقعة وقال:
(وذلك أن أبا براء عامر بن مالك المدعو مُلاعب الأسنَّة، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد. فقال: يا رسول الله لو بعثت أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى دينك لرجوت أن يجيبوهم)
أبوبراء عامر بن مالك ملاعب الأسنة .ويقال ملاعب الرماح لشجاعته. قال السهيلي رحمه الله في الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام(6/ 147): سُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ فِي يَوْمِ سُوبَانَ وَهُوَ يَوْمٌ كَانَتْ فِيهِ وَقِيعَةٌ فِي أَيّامِ جَبَلَةَ، وَهِيَ أَيّامُ حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ قَيْسٍ وَتَمِيمٍ .وَجَبَلَةُ اسْمٌ لِهَضْبَةِ عَالِيَةٍ .وَكَانَ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ فِي يَوْمِ سُوبَانَ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ أَنّ أَخَاهُ الّذِي يُقَالُ لَهُ فَارِسُ قُرْزل، وَهُوَ طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ،كَانَ أَسْلَمَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفَرّ فَقَالَ شَاعِرٌ
فَرَرْت وَأَسْلَمْت ابْنَ أُمّك عَامِرًا ... يُلَاعِبُ أَطْرَافَ الْوَشِيجِ الْمُزَعْزَعِ
فَسُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ وَمُلَاعِبُ الرّمَاحِ.اهـ.
وقد جاء أبو براء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودعاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، ما أسلم ولا أظهر عنادًا ومخالفةً، ثم عرض على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يبعث أصحابه إلى نجد لدعوتهم وتعليمهم، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إني أخاف عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا جارٌ لهم، وقد كانوا إذا أجار كبيرهم وسيدهم وشريفهم أحدًا كانوا يلتزمون بذلك ولا يخفرون ذمته. وتقدم معنا شيء من هذا في دروس متفرقة، ومن ذلك أن المطعم بن عدى أجار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما رجع من الطائف فدخل مكة في جوار كافر، وحفظ النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا المعروف له .روى البخاري (3139)  عَنْ جبير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ».
 وأجار ابن الدَّغِنة أبا بكر كما في صحيح البخاري (3905) عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: وفيه :خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، وَهُوَ سَيِّدُ القَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ، فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ، فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، وَأَنَا لَكَ جَارٌ، فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ، فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَرَجَعَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، فَطَافَ فِي أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلاَ يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يُكْسِبُ المَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ، فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ، فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ، وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ، وَلاَ القِرَاءَةِ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَبَرَزَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ القُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ المُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا، فَأْتِهِ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلاَنَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ، أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ...".
يقول ابن الدغنة لأبي بكررضي الله عنه (فَإِنَّكَ تَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ) . وهذه الصفات المذكورة في أبي بكر هي التي ذكرتها خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها في النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال الحافظ في الإصابة ترجمة أبي بكر الصديق : ومن أعظم مناقب أبي بكر أن ابن الدّغنّة سيد القارة لما ردّ إليه جواره بمكة وصفه بنظير ما وصفت به خديجة النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم لما بعث، فتواردا فيهما على نعتٍ واحد من غير أن يتواطئا على ذلك، وهذا غاية في مدحه، لأن صفات النبيّ صلى اللَّه عليه وسلّم منذ نشأ كانت أكمل الصفات.اهـ.
عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم مرَّ به العاص بن وائل وكان خائفًا فأجاره .أخرج البخاري (3864) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا، إِذْ جَاءَهُ العَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو، عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: «زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي أَنْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ، فَخَرَجَ العَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمُ الوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الخَطَّابِ الَّذِي صَبَا، قَالَ: لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ فَكَرَّ النَّاسُ».
الشاهد أنهم كانوا يلتزمون بالجوار، وأن المسلم قد يحتاج إلى جوار الكافر إذا كان هناك ضعف في المسلمين.
وهنا لما قال أبو براء: أنا جار لهم. بعث النبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبعين رجلًا وأمَّر عليهم المنذرَ بن عمرو أحد بني ساعدة ولقبُه المعنِق لِيموت وهو ممن أبلى بلاءً حسنًا في غزوة أحد رضي الله عنه .
(وكانوا من فضلاء المسلمين وساداتهم وقرَّائهم)
هذه من أوصاف السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكانوا يسمَّون بالقُراء ،وكانوا من خيار الصحابة ، أخرج البخاري (2801)ومسلم (677)واللفظ لمسلم  عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ، فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ، وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ، فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَعَرَضُوا لَهُمْ، فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ، فَقَالُوا: اللهُمَّ، بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَامًا، خَالَ أَنَسٍ مِنْ خَلْفِهِ، فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا " .
فكان هؤلاءِ السبعون الذين قُتِلوا رضي الله عنهم -مع كونهم من القرَّاء والعُبَّاد- قوةً ونُصرةً للمسلمين وفي خدمة إخوانهم أهل الصُفَّة وغيرهم .
 (فنزلوا بئر معونة، وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، ثم بعثوا منها حرام بن ملحان أخا أم سليم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل)
(ثم بعثوا منها) أي : من بئر معونة.
 (فلم ينظر فيه) لم ينظر عامر بن الطفيل في الكتاب.
 (وأمر به فقتله ضربه رجل بحربة، فلما خرج الدمُ قال: فزتُ ورب الكعبة) يقول حرام بن ملحان لما طُعن بالحربة: فزت ورب الكعبة ،وتقدم هذا قبل أسطر من حديث أنس في الصحيحين.
 (واستنفر عدو الله عامر: بني عامر إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوار أبي براء)
بعد قتل حرام استنفر عامر بن الطفيل عدو الله يصفه ابن كثير بأنه  عدوالله بأقبح وصفٍ ، ولعداوته خيَّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين ثلاثة أُمور . أخرج البخاري (4091) عن أنس بن مالك، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَعَثَ خَالَهُ، أَخٌ لِأُمِّ سُلَيْمٍ، فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا» وَكَانَ رَئِيسَ المُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، خَيَّرَ بَيْنَ ثَلاَثِ خِصَالٍ، فَقَالَ: يَكُونُ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ المَدَرِ، أَوْ أَكُونُ خَلِيفَتَكَ، أَوْ أَغْزُوكَ بِأَهْلِ غَطَفَانَ بِأَلْفٍ وَأَلْفٍ؟ فَطُعِنَ عَامِرٌ فِي بَيْتِ أُمِّ فُلاَنٍ، فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَكْرِ، فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ آلِ فُلاَنٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي، فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ... الحديث.
قال ابنُ الأثيرفي النهاية: المَدَر:أهلَ القُرَى وَالْأَمْصَارِ، وَاحِدَتُهَا: مَدَرَة.اهـ.
وقوله فطعن أي: أصيب بمرض الطاعون ،ثم هلك على ظهر فرسه كافرًا.
(إلى قتال الباقين، فلم يجيبوه، لأجل جوار أبي براء)
أي: إلى قتال الباقين من السبعين الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يجيبوه لأجل جوار أبي براء وقالوا: لانخفر جوار أبي براء.
(إلا كعب بن زيد من بني النجار فإنه ارتُثَّ من بين القتلى، فعاش حتى قتل يوم الخندق)
(ارتث) أي: حُمِل جريحًا. وبعد أن قُتلوا رضي الله عنهم أنزل الله فيهم قرآنًا كما تقدم قبل قليل فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا، وَإِنَّهُمْ قَالُوا: اللهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا " .وكان هذا من المنسوخ تلاوته.
وفي صحيح البخاري (4091) عن أَنَس ثُمَّ كَانَ مِنَ المَنْسُوخِ: إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا «فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثِينَ صَبَاحًا، عَلَى رِعْلٍ، وَذَكْوَانَ، وَبَنِي لَحْيَانَ، وَعُصَيَّةَ، الَّذِينَ عَصَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وقد كان الصحابة لما اعترض لهم هذا العدو قالوا: لم نأتِ لقتالكم وإنما نحن مجتازون لحاجة أمرنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بها ثم أحاطوا بهم وقتلوهم رضي الله عنهم . أخرج البخاري(4088) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ رَجُلًا لِحَاجَةٍ، يُقَالُ لَهُمْ القُرَّاءُ، فَعَرَضَ لَهُمْ حَيَّانِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، رِعْلٌ، وَذَكْوَانُ، عِنْدَ بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا بِئْرُ مَعُونَةَ، فَقَالَ القَوْمُ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكُمْ أَرَدْنَا، إِنَّمَا نَحْنُ مُجْتَازُونَ فِي حَاجَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتَلُوهُمْ «فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ شَهْرًا فِي صَلاَةِ الغَدَاةِ، وَذَلِكَ بَدْءُ القُنُوتِ، وَمَا كُنَّا نَقْنُتُ».
قَتلوا السبعين عن آخرهم رضي الله عنهم .وأخرج  البخاري (4078) عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: مَا نَعْلَمُ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ أَكْثَرَ شَهِيدًا أَعَزَّ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ قَتَادَةُ: وَحَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ «قُتِلَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ اليَمَامَةِ سَبْعُونَ»، قَالَ: «وَكَانَ بِئْرُ مَعُونَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَوْمُ اليَمَامَةِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ، يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ».
ولما علم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقتلهم قنت شهرًا يدعو على رعل وذكوان وعصية ثم تركه. أي: بعد شهر.
(كان عمرو بن أمية الضمري والمنذر بن محمد بن عقبة في سرح المسلمين)
تقدم معنا في بعث الرجيع أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث عمرو بن أمية لأخذ جثة خُبيب بن عدي وكان من الشجعان الأبطال.
(فرأيا الطير تحوم على موضع الوقعة، فنزل المنذر بن محمد هذا فقاتل المشركين حتى قتل مع أصحابه)
تحوم أَي تَطُوفُ وتتردد وحوم الطير كان قرينة على وجود دماء فنزل المنذر بن محمد هذا أي:  ابن عقبة المعروف.
(وأُسر عمرو بن أمية، فلما أخبر أنه من مضر جزَّ عامر ناصيته وأعتقه فيما زعم عن رقبة كانت على أمه)
(جزَّ عامر ناصيته) أي :عامر بن الطفيل، والناصية: مقدمة شعر الرأس. (وأعتقه فيما زعم) مع أنه أُسر عمرو بن أمية ظلما وبغيًا واعتداء ولكن فيما زعم أنه أعتقه .
(ورجع عمرو بن أمية، فلما كان بالقرقرة من صدر قناة نزل في ظل، ويجيء رجلان من بني كلاب، وقيل من بني سليم فنزلا معه فيه، فلما ناما فتك بهما عمرو وهو يرى أنه قد أصاب ثأراً من أصحابه، وإذا معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به، فلما قدم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل)
القرقرة موضع ولما نزل به فَتك على غرَّة برجلين بجواره، وكان هذان الرجلان معهما عهد من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لايعلم به عمرو بن أمية، فلما قدم عمرو بن أمية أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(قال: لقد قتلتَ قتيلين لأدينهما)
وهذا فيه دية المعاهَد، وقد ثبت في سنن أبي داوود (4583) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «دِيَةُ الْمُعَاهِدِ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ». ولا يجوز تعمد الأذى ولا القتل لمن كان معاهدًا ففي صحيح البخاري (3166)عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا». هذا دليل على أنه من الكبائر.
(وكان هذا سبب غزوة بني النضير كما ورد هذا في الصحيح)
كان قتلُ عمرو بن أُمية للمعَاهَدَينِ  سببًا لغزوة بني النضير وسيأتي إن شاءالله .
(وزعمَ الزُّهري أنَّ غزوةَ بني النضير بعد بدرٍ بستةِ أشهر ،وليس ذلك كما قال ،بل التي كانت بعد بدرٍ بستةِ أشهرٍ هيَ غزوةُ بني قينقاع ،وأما بنوالنضير فبعد أُحُد ،كما أنَّ قُريظة بعد الخندق ،وخيبربعدَ الحُدَيبية،وغزوةُ الروم عامَ تبوك بعد فتحِ مكة ،وأمر عليه السلام عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب).
هذا القدر ليس موجودًا في بعض نُسَخِ الفصول ،وقد ذكرهنا الحافظ ابنُ كثير بعض الغزوات .ورجح أن الصواب في غزوة بني النضيرأنها كانت  بعد غزوة أحد .
غزوة بني قينقاع :وهذا أيضًا قول بعض أهل السير أنها بعد بدرٍ بستةِ أشهرٍ. ومنهم من جعل  غزوة بني قينقاع في السنة الثالثة .وقد تقدم.
غزوة بني قريظة  كانت بعد الخندق مباشرة ،وغزوة الخندق في السنة الرابعة وبعضهم يقول في السنة الخامسة.
وقعة الحديبية سنة ست.
غزوة تبوك سنة تسع .وكل هذا سيأتي معنا إن شاء الله .
(وأمر عليه السلام عند موته بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب)
أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإجلاء بني قينقاع من المدينة -وهي من جزيرة العرب- كما تقدم في غزوة بني قينقاع ،وأمر بإجلاء بني النضير .وسيأتي ما حصل لبني قريظة إن شاء الله.
وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك بإجلاء اليهود والنصارى عمومًا من جزيرة العرب .وهذا مما اختُص به جزيرةُ العرب ومن مِيزاتِها ، أخرج مسلم (1767) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ، وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ إِلَّا مُسْلِمًا».
وإذا كان هذا في اليهود والنصارى فإخراجُ الكفار ممن ليس عندهم كتاب من باب أولى إخراجهم من جزيرة العرب .
وقال البخاري: بَابُ إِخْرَاجِ اليَهُودِ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ (3168)ثم أخرج بإسناده عن سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: يَوْمُ الخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الخَمِيسِ، ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمْعُهُ الحَصَى، قُلْتُ يَا أَبَا عَبَّاسٍ: مَا يَوْمُ الخَمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ، فَقَالَ: «ائْتُونِي بِكَتِفٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ أَبَدًا»، فَتَنَازَعُوا، وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيٍّ تَنَازُعٌ، فَقَالُوا: مَا لَهُ أَهَجَرَ اسْتَفْهِمُوهُ؟ فَقَالَ: «ذَرُونِي، فَالَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»، فَأَمَرَهُمْ بِثَلاَثٍ، قَالَ: «أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَأَجِيزُوا الوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ».
وقد تكلم العلماء على حدود جزيرة العرب وصفاتها، ومن جزيرة العرب مكة والمدينة واليمن دون الشام .
وقدسئل  شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى(28/ 630): هَلْ الْمَدِينَةُ مِنْ الشَّامِ؟
فَأَجَابَ:
مَدِينَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْحِجَازِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَيْرِهِمْ أَنَّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ مِنْ الشَّامِ وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا جَاهِلٌ بِحَدِّ الشَّامِ وَالْحِجَازِ جَاهِلٌ بِمَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ وَأَهْلُ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُمْ. وَلَكِنْ يُقَالُ الْمَدِينَةُ شَامِيَّةٌ وَمَكَّةُ يَمَانِيَةٌ: أَيْ الْمَدِينَةُ أَقْرَبُ إلَى الشَّامِ وَمَكَّةُ أَقْرَبُ إلَى الْيَمَنِ وَلَيْسَتْ مَكَّةُ مِنْ الْيَمَنِ وَلَا الْمَدِينَةُ مِنْ الشَّامِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَنْ تَخْرُجَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ - وَهِيَ الْحِجَازُ - فَأَخْرَجَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ وَيَنْبُعَ وَالْيَمَامَةِ وَمَخَالِيفِ هَذِهِ الْبِلَادِ؛ وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنْ الشَّامِ؛ بَلْ لَمَّا فَتَحَ الشَّامَ أَقَرَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ وَغَيْرِهِمَا كَمَا أَقَرَّهُمْ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا وَأَمَّا الْعُلَى وَتَبُوكَ وَنَحْوُهُمَا: فَهُوَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .اهـ.
استفدنا من كلام  شيخ الإسلام أن الْمَدِينَةَ وَخَيْبَرَ وَيَنْبُعَ وَالْيَمَامَةَ وَمَخَالِيفِ هَذِهِ الْبِلَادِ والْعُلَى وَتَبُوكَ وَنَحْوَهُمَا من أرض جزيرة العرب .وأن الشام لا تدخل في جزيرة العرب .
وقال رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 454 )في حدِّ جزيرة العرب :جزيرة العرب، التي هي من بحر القلزم  إلى بحر البصرة  ومن أقصى حَجَر باليمن، إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل  فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب، حين المبعث وقبله.
وهذا فيه إدخال اليمن في جزيرة العرب .
وأخرج البخاري في صحيحه معلقًا تحت رقم (3053)عن الْمُغيرَة بن عبدالرحمن :مَكَّة وَالْمَدينَة واليمامة واليمن .اهـ.
وأخرج البيهقي في سننه (9/ 352) عن مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،: جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَكَّةُ وَالْيَمَنُ , فَأَمَّا مِصْرُ فَمِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ , وَالشَّامُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ , وَالْعِرَاقُ مِنْ بِلَادْ فَارِسَ .اهـ.
وقال الأصمعي : جزيرة العرب : من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ، وأما العرض : فمن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام .يراجع/ أحكام أهل الذمة لابن القيم .
سبب تسميتها بجزيرة العرب
قال القاضي عياض في مشارق الأنوار: (جزيرة العرب ) بلادها سميت بذلك لإحاطة البحار بها والأنهار.
وفي فتح الباري وَسُمِّيَتْ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ لِإِحَاطَةِ الْبِحَارِ بِهَا يَعْنِي بَحْرَ الْهِنْدِ وَبَحْرَ الْقُلْزُمِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَبَحْرَ الْحَبَشَةِ.
وسبب إضافة الجزيرة إلى العرب :قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم تحت رقم  (1637)وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَدِيَارُهمُ الَّتِي هِيَ أَوْطَانُهُمْ وَأَوْطَانُ أَسْلَافِهِمْ .اهـ.
وقال الحافظ في فتح الباري (3053): وَأُضِيفَتْ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبِهَا أَوْطَانُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ .اهـ.
ثم قال النووي رحمه الله :وَأَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَأَوْجَبُوا إِخْرَاجَ الْكُفَّارِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ سُكْنَاهَا .وَلَكِنَّ الشَّافِعِيَّ خَصَّ هَذَا الْحُكْمَ بِبَعْضِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَهُوَ الْحِجَازُ وَهُوَ عِنْدَهُ مَكَّةُ والمدينة واليمامة وَأَعْمَالُهَا دُونَ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِدَلِيلٍ آخَرَ مَشْهُورٍ فِي كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَصْحَابِهِ .اهـ.
وقال الحافظ رحمه الله : لَكِنَّ الَّذِي يُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ سُكْنَاهُ مِنْهَا الْحِجَازُ خَاصَّةً وَهُوَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ واليمامة وَمَا وَالَاهَا لَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ .هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ. وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ مُطْلَقًا إِلَّا الْمَسْجِدَ وَعَنْ مَالِكٍ يَجُوزُ دُخُولُهُمُ الْحَرَمَ لِلتِّجَارَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ أَصْلًا إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لمصْلحَة الْمُسلمين خَاصَّة .اهـ.
وقد عمَّمَ بعضهم إخراج اليهود من جميع بلاد المسلمين . قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (19/23) قِيلَ: هَذَا الْحُكْمُ مَخْصُوصٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ . وَقِيلَ: بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اسْتَغْنَى الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ أَجْلَوْهُمْ مِنْ دِيَارِ الْإِسْلَامِ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ.اهـ.
فإذا كان عند المسلمين قوة وجبَ عليهم إخراج الكفار وعدم تمكينهم من الإقامة في جزيرة العرب ،ومن المنكر جلب العُمَّال من الكفار والخدم من الرجال والنساء إلى جزيرة العرب .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين(2/ 440): الحذر الحذر من استجلاب اليهود النصارى والوثنيين من البوذيين وغيرهم إلى هذه الجزيرة؛ لأنها جزيرة إسلام ، منها بدأ وإليها يعود ، فكيف نجعل هؤلاء الخَبَث بين أظهرنا وفي أولادنا ، وفي أهلنا ، وفي مجتمعنا . هذا مؤذنٌ بالهلاك ولابد.اهـ.
 ومن ميز جزيرة العرب يأسُ الشيطان من الشرك فيها لما وجد انتشار الإسلام والتوحيد أخرج مسلم في صحيحه (2812)عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» .
هذا مرورٌ سريع على ما يتعلق بجزيرةِ العرب أحببنا الاطلاع عليه وعلى معرفة فضيلة أرض جزيرة العرب فقد جرتْ حكمةُ الله تفضيلَ بعض البقاع على بعض وتفضيل بعض الأزمان على بعض .
نكون انتهينا بحمد الله من  وقعة بئر معونة وعرفنا ما حصل من الظلم للسبعين القراء الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنهم قُتلوا في الطريق  قبل أن يصلوا إلى المكان الذي خرجوا من أجله   .
وكان من الذين قتلوا في بئر معونة المنذر بن عمرو المعْنِق ليموت ،وعامر بن فُهيرة جاء في صحيح البخاري (4093) عن عائشة في سياق حديث الهجرة وفيه :فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ غُلاَمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، أَخُو عَائِشَةَ لِأُمِّهَا، وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ مِنْحَةٌ، فَكَانَ يَرُوحُ بِهَا وَيَغْدُو عَلَيْهِمْ وَيُصْبِحُ، فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ، فَلاَ يَفْطُنُ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّعَاءِ، فَلَمَّا خَرَجَ خَرَجَ مَعَهُمَا يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَا المَدِينَةَ، فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ .
 ثم ذكر البخاري في آخره من طريق هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَأَخْبَرَنِي أَبِي، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ الَّذِينَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، قَالَ: لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ مَنْ هَذَا؟ فَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ: هَذَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ، ثُمَّ وُضِعَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرُهُمْ فَنَعَاهُمْ، فَقَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَكُمْ قَدْ أُصِيبُوا، وَإِنَّهُمْ قَدْ سَأَلُوا رَبَّهُمْ، فَقَالُوا: رَبَّنَا أَخْبِرْ عَنَّا إِخْوَانَنَا بِمَا رَضِينَا عَنْكَ، وَرَضِيتَ عَنَّا، فَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُمْ» وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ عُرْوَةُ بْنُ أَسْماءَ بْنِ الصَّلْتِ، فَسُمِّيَ عُرْوَةُ، بِهِ وَمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، سُمِّيَ بِهِ مُنْذِرًا .وهذا مرسل من مراسيل عروة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري: وَفِي رِوَايَةِ عُرْوَةَ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِلَابٍ جَبَّارُ بْنُ سَلْمَى ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا طَعَنَهُ قَالَ فُزْتُ وَاللَّهِ قَالَ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا قَوْلُهُ فُزْتُ فَأَتَيْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ سُفْيَانَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ بِالْجَنَّةِ قَالَ فَأَسْلَمْتُ وَدَعَانِي إِلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ مِنْ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ .قال : وَوَقَعَ فِي تَرْجَمَةِ عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ قَتَلَهُ وَكَأَنَّ نِسْبَتَهُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّجَوُّزِ لِكَوْنِهِ كَانَ رَأْسَ الْقَوْمِ.اهـ.
عرفنا مما ذكره الحافظ أن قاتلَ عامرِ بن فهيرة رضي الله عنه جبارُ بن سلمى، بضم السين وقيل بفتحها كما في الإصابة .
وحرام بن ملحان وهو أول من قُتِل منهم .
وعروة بن أسماء بن الصلت.رضي الله عنهم أجمعين .
**************************
فصل ـ غزوة بني النضير
ونهض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة إلى بني النضير ليستعينَ على ذينك القتيليَن لما بينه وبينهم من الحِلْف، فقالوا: نعم.
وجلس صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر وعمر وعلي وطائفةٌ من أصحابه رضي الله عنهم تحت جدار لهم، فاجتمعوا فيما بينهم وقالوا: من رجل يلقي بهذه الرحا على محمد فيقتله؟ فانتُدِب لذلك عمرو بن جحاش لعنه الله وأعلم الله رسولَه بما همُّوا به، فنهض صلى الله عليه وسلم من وقته من بين أصحابه، فلم يتناهَ دون المدينة، وجاء مَن أخبر أنه رآه صلى الله عليه وسلم داخلاً في حيطان المدينة، فقام أبو بكر ومن معه فاتبعوه، فأخبرهم بما أعلمه الله من أمر يهود، فندبَ الناس إلى قتالهم، فخرج واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم وذلك في ربيع الأول فحاصرهم ستَ ليال منه وحينئذٍ حرمت الخمر، كذا ذكره ابن حزم، ولم أره لغيره.
ودسَّ عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابُه من المنافقين إلى بنى النضير: أنَّا معكم نقاتل معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم.
فاغترَّ أولئك بهذا، فتحصَّنوا في آطامهم، فأمر صلى الله عليه وسلم بقطع نخيلهم وإحراقها، فسألوا رسول الله أن يجليَهم ويحقنَ دماءهم على أن لهم ما حملت إبلُهم غير السلاح فأجابهم إلى ذلك، فتحمل أكابرهم كحُيي بنِ أخطب، وسلام بن أبي الحقيق بأهليهم وأموالهم إلى خيبر فدانت لهم، وذهبت طائفةٌ منهم إلى الشام ولم يُسلم منهم إلا رجلان، وهما أبو سعد بن وهب، ويامين بن عمير بن كعب، وكان قد جَعل لمن قَتل ابنَ عمه عمرو بن جحاش جُعْلاً، لِمَا كان قد همَّ به من الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحرزا أموالهما، وقسم رسول الله أموال الباقين بين المهاجرين الأولين خاصة، إلا أنه أعطى أبا دجانة وسهل بن حنيف الأنصارِيَّين لفقرِهما، وقد كانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله، فلم يوجفِ المسلمون بخيل ولا ركاب.
وفي هذه الغزوةِ أنزل اللهُ سبحانه سورة الحشر، وقد كان عبدُ الله بن عباس رضي الله عنهما يسميها سورةَ بني النضير.
**************************
عندنا في هذا الفصل غزوةُ بن النضير ، وسبب هذه الغزوة قتل عمرو بن أمية ذينك الرجلين اللذين كان معهما عهدٌ مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعلم عمرو به ، فخرج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنفسه الكريمة إلى بني النضير ليستعين بهم في دفع الدية، فقالوا: نعم نعينك ثم همُّوا أن يلقوا صخرة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وانتُدب لذلك عمرو بن جحاش، وجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانصرف إلى المدينة. ثم بعد ذلك ندب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقتال بني النضير لأنهم نقضوا العهد .وكان هذا في ربيع الأول في السنة الرابعة، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حصونهم.
(وذلك في ربيع الأول فحاصرهم ست ليال منه) ست ليال منه أي: من ربيع الأول.
(ودسَّ عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين إلى بنى النضير: أنَّا معكم نقاتل معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم)
وكان قد دسَّ إليهم أي: أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من يبلغ بني النضير بخُفية ، وقالوا لبني النضير: إذا قاتلكم فنحن ننصركم، وهذا وعد منافقين لما قاتلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خذلوهم وأخلوهم وشأنهم وكانوا منتظرين لنصرهم وهم في حصونهم، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: بني النضير، ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الحشر:11]. فهي مواعيد نفاق، ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)﴾ [الحشر] أي: محمد وأصحابه أشد رهبة من الله في صدورهم  أي: يخافونكم أشد، ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر:14] من داخل حصونهم وهنا يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: (فتحصنوا في آطامهم) .وهذا شأن الجبناء .روى مسلم في صحيحه (116) عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ - قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي ذَخَرَ اللهُ لِلْأَنْصَارِ الحديث .قال ابن الجوزي رحمه الله في كشف المشكل(3/ 104): أما امْتنَاعُ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْحصن فَإِن التحصن بالجدران فعل الجبان، وَإِنَّمَا التحصن بِالسُّيُوفِ والمبارزة فعل الشجاع. وَسمي الْحصن حصنا من الامتناع. والمنعة: مَا تمنع.اهـ.
﴿ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ﴾ عبارة عن مدافعة، ﴿بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ بينهم فرقة شديدة، ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الحشر:15] حالهم كحال الذين من قبلهم أي من  بني قينقاع.
﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر:16] شبَّه الله حال بني النضير بحال من وسوس له  الشيطان بالكفر، فبنو النضير وَعدَهم المنافقون بالنصر ثم تخلوا عنهم كما زيَّن الشيطان لذلك الإنسان الكفر فلما كفر تبرَّأ منه .
سورة الحشر بتمامها في شأن بني النضير، كما أن سورة الأنفال في وقعة بدر ،ونحو الستين الآية في سورة آل عمران في غزوة أحد.
وما كان يخطر ببالهم أن مصيرهم إلى الحصار والإهانة والإخراج يقول الله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
وحاصرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستة أيام وقذف الله في قلوبهم الرعب، كانوا مرعوبين من قتال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحابته .كيف وقد أيَّده ربُّه بإرعاب عدوه مسيرة شهر .روى البخاري (335،438) ومسلم (521)عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً " .قال الحافظ ابنُ كثير في البداية والنهاية (4/78): ومع هذا-أي ما أصابهم من الرعب - فأسَرهم بالمحاصرة بجنوده ونفسه الشريفة ست ليال فذهب بهم الرُّعب كلَّ مذهب حتى صانعوا وصالحوا على حقن دمائهم وأن يأخذوا من أموالهم ما استقلت به رِكابُهم على أنهم لا يصحبون شيئا من السلاح إهانة لهم واحتقارا فجعلوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الابصار. ثم ذكر تعالى أنه لو لم يصبهم الجلاء وهو التسيير والنفي من جوار الرسول من المدينة لأصابهم ما هو أشد منه من العذاب الدنيوي وهو القتل مع ما ادخر لهم في الآخرة من العذاب الأليم المقدر لهم.اهـ.
 فمن شدة الرعب والضيق طلبوا الجلاء وأن يخرجوا مع كل بعير بحمولة من الأمتعة فقبِل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم ذلك فجعلوا﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ [الحشر:2].  يخربون بيوتهم بأيديهم ليأخذوا الأشياء المستحسَنة من الأبواب والخشب وغيرها و { وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } يخربون ظاهرها .
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ كيف مآل المعاندين ومصيرهم إلى الخزي والنكال.
ثم قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ [الحشر:3] .
(الْجَلَاءَ) أي: الخروج من ديارهم (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) بالسبي والقتل، والإخراج من الديارفي حق المؤمن  ابتلاء  وهو في حق الكفار يعد من أنواع العذاب .ولكن هذا أخف بالنسبة للسبي والقتل، أن تسبى نساؤهم وذراريهم وتقتل مقاتلتُهم.
وفي أثناء الست الليالي قطع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلهم إذلالًا لهم ومهانة وهذا في الصحيحين البخاري (4031) ومسلم (1746) واللفظ له. عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ، وَحَرَّقَ»، وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ:
وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ  
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا ﴾ [الحشر: 5] الْآيَةَ.
قال الحافظ ابن كثير في البداية (4/78): ثم ذكر تعالى حكمة ما وقع من تحريق نخلهم وترك ما بقي لهم وأن ذلك كلَّه سائغ فقال ما قطعتم من لينة وَهُوَ جَيِّدُ التَّمْرِ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أصولها فبإذن الله .إِنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أُذِنَ فِيهِ شَرْعًا وَقَدَرًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَلَنِعْمَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ ،وَلَيْسَ هُوَ بِفَسَادٍ كَمَا قَالَهُ شِرَارُ الْعِبَادِ إِنَّمَا هُوَ إِظْهَارٌ لِلْقُوَّةِ وَإِخْزَاءٌ لِلْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ.اهـ.
وقال النووي في شرح صحيح مسلم (12/ 50)في شرح الحديث : قَوْلُهُ (حَرَّقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَّعَ وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) .قوله حرق بتشديد الراء والبويرة بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَهِيَ مَوْضِعُ نَخْلِ بَنِي النضير. واللينة الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ أَنْوَاعُ الثَّمَرِ كُلُّهَا إِلَّا الْعَجْوَةَ وَقِيلَ كِرَامُ النَّخْلِ وَقِيلَ كُلُّ النَّخْلِ وَقِيلَ كُلُّ الْأَشْجَارِ لِلِينِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّ أَنْوَاعَ نَخْلِ الْمَدِينَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ قَطْعِ شَجَرِ الْكُفَّارِ وَإِحْرَاقِهِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن القاسم ونافع مولى بن عُمَرَ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عنه فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمْ لَا يَجُوزُ.اهـ.
(وقد كانت أموالهم مما أفاء الله على رسوله، فلم يوجفِ المسلمون بخيل ولا ركاب).
كانت أموال بني النضير  فيئًا. والفيء: ما أخذ من أموال الكفار بغير قتال.
﴿وَلَا رِكَابٍ﴾ الركاب الإبل.


وقول الحافظ ابن كثير (وحينئذٍ حرمت الخمر، كذا ذكره ابن حزم، ولم أره لغير)
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (34/ 187)..فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي السُّنَّةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ .
وقال رحمه الله في هذا المرجع نفسه(14/ 117):فَإِنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ .اهـ.

فهذا ما أفاده شيخ الإسلام أن الخمر حُرِّمت سنة ثلاثٍ بعد أحد باتفاق الناس .والله أعلم .


انتهينا من غزوة بني النضير وما حصل لبني النضير-إحدى طوائف اليهود الكبار الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم غدروا - من الإهانة والخزي والإذلال وأجلاهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ديارهم وتركوا بيوتَهم وأموالهم فيئًا ، وما يحمل أحد معه  من الأمتعة إلا حمل بعير. فاعتبروا يا أولي الأبصار .


فصلٌ
وقنت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو على الذينَ قتلوا القرَّاء أصحابَ بئرِ معونة .


كان اللائق وضع هذا الفصل عقب وقعة بئر معونة لأنه يتعلق بها .

وهذا فيه القنوت في النوازل ولم يكن يقنت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غير النوازل. وأما ما جاء مسند أحمد (12657) من طريق أَبي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «مَا زَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا». فهو حديث ضعيف .أبو جعفر الرازي ضعيف .والله أعلم .


الرابط على موقع الشيخة أم عبدالله الوادعية
http://alwadei967.blogspot.com/2016/03/28-1437.html

أضف رد جديد