إعلام أهل الإسلام بأسنى المقاصد في الذب عن الأئمة الأعلام

أضف رد جديد

كاتب الموضوع
أبوأنس بشير الجزائري
مشاركات: 77
اشترك في: صفر 1436

إعلام أهل الإسلام بأسنى المقاصد في الذب عن الأئمة الأعلام

مشاركة بواسطة أبوأنس بشير الجزائري »

إعلام أهل الإسلام بأسنى المقاصد في الذب عن الأئمة الأعلام



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أما بعد :
فقد اعتبرت الشريعة الإسلامية للعلماء منزلة ليست لغيرهم من الناس ، وجعلت لهم مقاما رفيعا وأقامتهم أدلاء للناس على أحكام الله عز وجل ، وجعلت طاعتهم ، طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فالتزام أمرهم واجب ، وجعلت مولاتهم واجبة .
قال الإمام أبوالعباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 8)
(( يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ -بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ تعالى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ. خُصُوصًا الْعُلَمَاءُ, الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ, يُهْتَدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ.
إذْ كَلُّ أُمَّةٍ -قَبْلَ مَبْعَثِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا, إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ (1) ؛ فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ, والمحيون لِمَا مَاتَ مِنْ سُنَّتِهِ. بِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ, وَبِهِ قَامُوا, وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا. ))
فبناء على هذا جعل السلف محبة الرجل علماء بلده من أهل السنة وأتباع السلف معيارا يحكم به على صحة معتقده وسلامة منهجه .
قال الإمام ابن المديني : (( إذا رأيت الرجل يعتمد من أهل البصرة على أيوب السختياني وابن عون ويونس والتيمي ويحبهم ويكثر ذكرهم والاقتداء بهم فارج خيره.
ثم من بعد هؤلاء حماد بن سلمة ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير فإن هؤلاء محنة أهل البدع .
وإذا رأيت الرجل من أهل الكوفة يعتمد على طلحة بن مصرف وابن أبجر وابن حيان التيمي ومالك بن مغول وسفيان بن سعيد الثوري وزايدة فارجه .
ومن بعدهم عبد الله بن إدريس ومحمد بن عبيد وابن أبي عتبة والمحاربي فارجه. )) (2)
وقد تواترت الآثار في الحث على احترامهم وتوقيرهم
قَالَ طَاوس بن كيسان :(( مِن السّنة أَن يوقر أَرْبَعَة: الْعَالم، وَذُو الشيبة، وَالسُّلْطَان، وَالْوَالِد)) (3)
ومن هذا الباب ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته ومرتبته أنه اخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري وقال: ((هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.))
وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لخلف الأحمر: (( لا أقعد إلا بين يديك، أمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه.)) (4)
ومن احترامهم وتوقيرهم رعاية مراتبهم ومنزلتهم التي أقر لهم بها أهل زمانهم أو بلدهم بالعلم والفضل واعترف لهم بجلالة القدر ، وصاروا يرجعون إليهم ويستفتونهم فيما استغلق وخفي .
نقل الحافظ الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ عن بعض العلماء قوله في الحاكم ابن البيع صاحب ( المستدرك) :
((وَلَقَدْ سَمِعْتُ مَشَايِخنَا يذكرُوْنَ أَيَّامه، وَيْحَكُون أَنَّ مُقَدَّمِي عصره مِثْلَ أَبِي سهلٍ الصُّعلوكِي, وَالإِمَام
ابْنِ فُوْرَك, وَسَائِر الأَئِمَّة يُقدِّمونه عَلَى أَنفسهِم، وَيُرَاعُوْنَ حقَّ فَضله، وَيعرفُوْنَ لَهُ الحرمَة الأَكيدَة)) (5)
وأن من تمام وكمال احترامهم وحفظ منزلتهم الحذر من الطعن فيهم والسعي إلى إسقاطهم .
وقد قرر أهل العلم : أن القدح في العلماء والطعن فيهم سبيل من سبل أهل الزيغ والضلال ، ذلك أن الطعن في العلماء ليس طعنا في ذواتهم وإنما هو طعن في الدين والدعوة التي يحملونها ، والملة التي ينتسبون إليها ، وهذا مراد أهل البدع الطاعنين في سلف الأمة وعلمائها التابعين لهم بإحسان ، والطرق والأسباب معتبرة بالمقاصد تابعة لها
واعلم ـ يا أُخي ـ أن القدح في العلماء إيذاء لهم ، والإيذاء للعلماء إيذاء لأولياء الله صالحين ، فإن العلماء العاملين يدخلون دخولا أوليا في وصف الأولياء .
والاستهزاء بأهل العلم والفضل وتعييرهم والقدح فيهم خطر على دين المرء ، إذ قد يفضي بصاحبه إلى ما لم يكن بحسبانه .
فاحذر من الاستهزاء بالعلماء والطعن فيهم ، واحذر غيبتهم ، وغيبتهم أعظم من غيبة غيرهم من الناس .
فلا تجرّئ الرعاع على الطعن في العلماء، فإن بعض طلبة العلم يجرّئ الناس على القدح في أولي العلم بما يقذفه من أقوال لا يظنها تبلغ ما تبلغ، فيقول: فلان لا يعتد بتصحيحه، و فلان لا يقبل رأيه، و قد يكون هذا المعترض حقا و لكن يجب ألا يقوله عند العامة، و صغار طلبة العلم الذين لا يزنون الأقوال و لا يحسبون لها حسابا، بل يأخذون تلك الكلمة فيجترئون – تحت ظل نحن رجال و هم رجال – على العلماء ثم على الأئمة و هكذا، فالشر مبدأه شرارة.
وفي هذا المقام لنا وقفة : وهي أن العلماء بشر يخطئون ، ولكن اتهامهم بالخطأ قد يكون غير صحيح فيخطئهم المخطئ فيما هم فيه مصيبون ، أو يتهمهم بما ليس فيهم .
إذ من الناس من تأخذه العجلة والنظرة السوداوية للأمور فيحمل كلام الناس على الشر والخطأ
وعين الرضا عن كل عيب كليلة … كما أن عين السخط تبدي المساوي
ومن الناس من يكون إنكاره على عالم بسبب جهله بحال ذلك العالم ، فيسمع منه شيئا محتملا أو مجملا ، ويجهل أشياء مبنية لتلك المجاملات المحتملات ، أو لا يرجع إلى العالم فيها ، فيطير بالأمر الذي سمعه كل مطار على أنه خطأ شنيع وجرم فضيع .
ذكر الإمام الذهبي رحمه الله أن أبا كامل البصري قال : (( سمعت بعض مشايخي يقول : كُنَّا فِي مَجْلِس ابي خَنْب, فَأَملَى فِي فَضَائِل عليّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَعْدَ أَنْ كَانَ أَمْلَى فَضَائِلَ الثَّلاَثَة؛ إِذْ قَامَ أَبُو الفَضْلِ السُّلَيْمَانِيُّ، وَصَاح: أَيُّهَا النَّاس, هَذَا دَجَّال فَلاَ تكتُبُوا، وَخَرَجَ مِنَ المَجْلِس؛ لأَنَّه مَا سَمِعَ بفَضَائِل الثَّلاَثَة.))
قال الذهبي تعليقا على هذه القصة : هَذَا يَدُلُّ عَلَى زَعَارَّة السُّلَيمَانِي وَغِلْظَتِهِ -الله يسَامحه. (6)
وبعض الناس قد يتهم عالما من أتباع السلف ببدعة ، وليس معه على هذا الاتهام دليل ، ولا برهان ، والعبرة في مثل هذه الأمور إنما هي برأي المعتبرين من أهل السنة والجماعة : أتباع السلف ، لا إلى رأي آحاد الناس ، والنظر فيها إلى الأدلة والبراهين على ذلك الاتهام واجب .
قيل للإمام أحمد يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ كَانَ يَحْيَى، وَأَبُو عُبَيْدٍ لاَ يَرْضَيَانِهِ ـ يعني الشافعي يُشِيْرُ إِلَى التَّشَيُّعِ وَأنَّهُمَا نَسَبَاهُ إِلَى ذَلِكَ -فَقَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ: (( مَا نَدْرِي مَا يَقُوْلاَنِ وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إلَّا خَيْراً. )) (7)
ثم قال أحمد لمن حوله : (( اعلموا رحمكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم إذا منحه الله شيئا من العلم وحرمه قرناؤه وأشكاله حسدوه ، فرموه بما ليس فيه ، وبئست الخصلة في أهل العلم )) (8)
قال الإمام الذهبي : (( مَنْ زَعَمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَتَشَيَّعُ فَهُوَ مُفْتَرٍ لاَ يَدْرِي مَا يَقُوْلُ.)) (9)
ونبه أهل العلم في هذا المقام ، أن مرد الحكم على زلات العلماء ليس إلى العوام وأنصاف المتعلمين ، إنما هو إلى العلماء والمجتهدين من طلبة العلم .
إن بعض الناس قالوا : إنهم اشتكوا إلى بعض أهل العلم في بلدهم ما يجدون من انحرافات فنصحهم العالم ودعاهم إلى الصبر ، وقال : أنه ليس زمان إلا والذي بعده شر منهم وأمرهم بالحرص على الدعوة والإصلاح بالوسائل الشرعية الممكنة ، فغضب هؤلاء وخطؤوا العالم إذ أمرهم بالصبر وقال لهم بتتابع الشرور .
وهذا الأمر الذي خطأ فيه هؤلاء الناس العالم ليس بخطأ إذ وقع مثل ذلك الموقف الذي وقعوا فيه مع العالم لقوم مع عالم من سادات علماء الصحابة .
قال الزبير بن عدي ـ رحمه الله ّـ جئنا إلى أنس بن مالك فشكونا إليه ما نجد من الحجاج فقال : (( اصبروا فإنه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم )) (10)
وعندما يسند الحكم على أخطاء العلماء إلى صغار طلبة العلم يحدث الخلط إذ قد تشتبه عليهم الأمور ، فتشتبه مسألتان على شخص من الأشخاص فيحكم على العالم ببدعة في مسألة اجتهادية ظنا منه أنها أخرى منكرها يعد من أهل الابتداع .
ومثل أهل العلم في هذا المقام بمسألة رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج ، ورؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة .
فالأولى : الخلاف فيها واقع بين أهل العلم
والثانية : منكرها من أهل الابتداع والزيغ والضلال .
يقول الحافظ الذهبي ـ في بيان الفرق بين المسألتين ـ : ((وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيْلُ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ مَعَ إِمْكَانِهَا، فَنَقِفُ عَنْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ، فَإِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيْهِ، فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ أَوْ نَفْيُهُ صَعْبٌ، وَالوُقُوْفُ سَبِيْلُ السَّلاَمَةِ - وَاللهُ أَعْلَمُ -.(11)
وَإِذَا ثَبَتَ شَيْءٌ، قُلْنَا بِهِ، وَلاَ نُعَنِّفُ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ لِنَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الدُّنْيَا، وَلاَ مَنْ نَفَاهَا، بَلْ نَقُوْلُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، بَلَى نُعَنِّفُ وَنُبَدِّعُ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ فِي الآخِرَةِ، إِذْ رُؤْيَةُ اللهِ فِي الآخِرَةِ ثَبَتَ بِنُصُوْصٍ مُتَوَافِرَةٍ.)) (12)
بل قد يشتبه الأمر أيضا على بعض العلماء فيخطئ عالما آخر في مسألة وهو غير مخطئ فيها ، ومن ذلك ما حصل من تخطئة الإمام محمد بن يحيى الذهلي للإمام البخاري في مسألة اللفظ ، إذ سئل عنها البخاري فوقف فيها فلما وقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة ، واستدل لذلك فهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ فتكلم فيه ، وأخذه بلازم قوله هو وغيره (13)
وهذا اللازم غير صحيح ، وقول الإمام البخاري صحيح إذ لم يقصد نفس ألفاظ القرآن التي تكلم الله بها ، بل قصد الصوت المسموع من القارئ للقرآن ، فذلك من أفعال العباد ، وأفعال العباد ومنها أصواتهم وألفاظهم مخلوقة ، وأما الله عز وجل بفعله وكلامه الذي منه القرآن فغير مخلوق جل في علاه .
فالإمام البخاري ـ رحمه الله ـ لم يقصد المعنى الذي يريده الجهمية وأضرابهم وإنما قصد معنى صحيحا بينه ووضحه ، وإنما شُنع عليه لحاجة في نفس من تكلم فيه ، و إن كان الأولى بالإمام البخاري ـ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ـ ترك مثل هذه الكلمات التي نهى عنها الإمام أحمد وغيره من علماء السلف .
ومما يجدر بنا أن ننبه عليه في هذا المقام إذا علمنا بأن العلماء بشر يخطئون ويصيبهم ما يصيب البشر من الغفلة والنسيان والجهل والضعف والإكراه ، فإذا عثرنا لأحدهم على خطئ ، ووقعنا على زلة من زلاتهم ، أن نلتمس لهم عذرا ونحسن الظن بهم ، مما تحفظ به كرمتهم ، وتصان به منزلتهم ، ويبقى به قدرهم .
إذ من الواجب على المؤمن أن يظن بأهل الإيمان والدين والصلاح الخير ، حينما يسمع عنهم تهمة من التهم .

قال الله تعالى في قصة الإفك : {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]
قال أمير المؤمنين الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا )) ذكره الحافظ ابن كثير في كتاب التفسير (4/213)
وقال أبو قِلَابَة : (( إِذَا بَلَغَكَ عَنْ أَخِيكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ فَالْتَمِسْ لَهُ الْعُذْرَ جَهْدَكَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَهُ عُذْرًا فَقُلْ فِي نَفْسِكَ: لَعَلَّ لِأَخِي عُذْرًا لَا أَعْلَمُهُ )) (14)
إن من التماس العذر للعلماء التماسه لمن أجاب في فتنة خلق القرآن وما يشبهها خوفا من النكال والعذاب بما يخالف الحق ، فأتى الرخصة ـ التي قد ثبتت في النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان ـ ، والعالم بشر يعرض له الخوف ، فقد يقول تقية ما يُطلب منه خشية الضرب والسجن فيفعل الرخصة مع ترك العزيمة التي هي أولى في حق العالم الذي ينبغي منه الصبر على الأذى في الله عز وجل حتى لا يفتتن الناس بفعله وقوله .
قَالَ المَرُّوْذِيُّ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ العَسْكَرِ يَقُوْلُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: ابْنُ المَدِيْنِيِّ يُقْرِئُكَ السَّلاَمَ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ, قَالَ لِي عَبَّاسٌ العَنْبَرِيُّ: قَالَ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: وَذَكَرَ رَجُلاً, فَتَكَلَّمَ فِيْهِ, فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُم لاَ يَقبَلُوْنَ مِنْكَ إِنَّمَا يَقبَلُوْنَ مِنْ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ. قَالَ: قَوِيَ أَحْمَدُ عَلَى السُّوطِ, وَأَنَا لاَ أَقْوَى. (15)
وجاء أيضا في السير (9/ 114) : قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الجُنَيْدِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ مَعِيْنٍ، وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ فَحَمَلُوا عَلَيْهِ. فَقُلْتُ: مَا هُوَ عِنْدَ النَّاسِ إِلاَّ مُرتَدٌّ, فَقَالَ: مَا هُوَ بِمُرْتَدٍّ، هُوَ علَى إِسْلاَمهِ رَجُلٌ خَافَ, فَقَالَ .
قَالَ ابْنُ عَمَّارٍ المَوْصِلِيُّ فِي "تَارِيْخِهِ" قَالَ لِي عَلِيُّ بنُ المَدِيْنِيِّ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَفِّرَ الجَهْمِيَّةَ، وَكُنْتُ أَنَا أَوَّلاً لاَ أُكَفِّرُهُمْ? فَلَمَّا أَجَابَ عَلِيٌّ إِلَى المِحْنَةِ، كَتَبْتُ إِلَيْهِ أُذَكِّرُهُ مَا قَالَ لِي وَأُذَكِّرُهُ اللهَ. فَأَخْبَرَنِي رَجُلٌ عَنْهُ: أَنَّه بَكَى حِيْنَ قَرَأَ كِتَابِي. ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدُ فَقَالَ لِي: مَا فِي قَلْبِيَ مِمَّا قُلْتُ وَأَجَبتُ إِلَى شَيْءٍ وَلَكِنِّي خِفتُ أَنْ أُقْتَلَ, وَتَعْلَمُ ضَعْفِيَ أَنِّي لَوْ ضُرِبتُ سَوْطاً وَاحِداً لَمِتُّ أَوْ نَحْوَ هَذَا.
قَالَ ابْنُ عَمَّارٍ: وَدَفَعَ عَنِّي عَلِيٌّ امْتِحَانَ ابْنِ أَبِي دُوَادَ إِيَّايَ شَفَعَ فِيَّ وَدَفَعَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ المَوْصِلِ مِنْ أَجْلِي فَمَا أَجَابَ دِيَانَةً إِلاَّ خَوْفاً. ا.ه
وأخرج الحافظ الذهبي في السير (9/ 133) عن سَعِيْد بن عَمْرٍو البَرْذَعِيُّ أنه قال : سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا زُرْعَةَ الرَّازِيَّ، يَقُوْلُ: كَانَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ لاَ يَرَى الكِتَابَةَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ، وَلاَ عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ امْتُحِنَ فَأَجَابَ.
قال الذهبي معلقا : هَذَا أَمرٌ ضَيِّقٌ، وَلاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ أَجَابَ فِي المِحْنَةِ، بَلْ وَلاَ عَلَى مَنْ أُكرِهَ عَلَى صَرِيحِ الكُفْرِ عَمَلاً بِالآيَةِ. وَهَذَا هُوَ الحَقُّ. وَكَانَ يَحْيَى رَحِمَهُ اللهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَخَافَ مِنْ سَطْوَةِ الدَّوْلَةِ وَأَجَابَ تَقِيَّةً.ا.هـ
ومما ينبغي على المنصف العاقل أنه يسلكه في باب إعذار العلماء قبل أن يتهجم ويجازف بالحكم عليهم وتضليلهم وإسقاطهم أن يراعي الأمور التالية:
الأمر الأول : أن يسأل ويستفصل عن الباعث والحامل الذي حمل ذلك العالم على ركوب ومواقعة هذا الخطأ ، فالتثبت في هذا الموطن من الأخلاق المرعية التي جاءت بها الشريعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (6/ 303) : (( وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاقِلِينَ لَيْسَ قَصْدُهُ الْكَذِبَ، لَكِنَّ الْمَعْرِفَةَ بِحَقِيقَةِ أَقْوَالِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ أَلْفَاظِهِمْ وَسَائِرِ مَا بِهِ يُعْرَفُ مُرَادُهُمْ قَدْ يَتَعَسَّرُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِهِمْ.))
الأمر الثاني: أن يكون الحاكم على هذا العالم على ورع تام يمنعه من البغي والظلم ، لأنه قد يكون الحاكم على هذا العالم ممن يعرف الشرع في هذه المسألة المحكوم عليها وعلى صاحبها ويعرف حال صاحبها ولكن ينقصه الورع والإنصاف .
قال الإمام الذهبي في ترجمة الفضيل بن عياض رحمه الله : (( إِذَا كَانَ مِثْلُ كُبَرَاءِ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ قَدْ تَكَلَّمَ فِيْهِمُ الرَّوَافِضُ وَالخَوَارِجُ، وَمِثْلُ الفُضَيْلِ يُتكلَّمُ فِيْهِ، فَمَنِ الَّذِي يَسْلَمُ مِنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ، لَكِنْ إِذَا ثبتَتْ إِمَامَةُ الرَّجُلِ وَفَضْلُهُ، لَمْ يَضُرَّهُ مَا قِيْلَ فِيْهِ، وَإِنَّمَا الكَلاَمُ فِي العُلَمَاءِ مُفتَقِرٌ إِلَى وَزنٍ بِالعَدْلِ وَالوَرَعِ.)) (16)
الأمر الثالث: قد راعى أهل العلم في هذا الباب منزلة المخطئ وعلو مرتبته ، فيغتفر للمجتهد ومن علت منزلته في الدين ما لا يغتفر لغيره .
قال الإمام سعيد بن المسيب «لَيْسَ مِنْ عَالِمٍ وَلَا شَرِيفٍ وَلَا ذِي فَضْلٍ إِلَّا وَفِيهِ عَيْبٌ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ فَضْلُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِهِ ذَهَبَ نَقْصُهُ لِفَضْلِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ نُقْصَانُهُ ذَهَبَ فَضْلُهُ» (17)
قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 220) : (( وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ. ))
قال الإمام الذهبي في ترجمة محمد نصر المروزي : (( وَلَوْ أَنَّا كلَّمَا أَخْطَأَ إِمَامٌ فِي اجْتِهَادِهِ فِي آحَادِ المَسَائِلِ خَطَأً مَغْفُوراً لَهُ، قُمْنَا عَلَيْهِ، وَبدَّعْنَاهُ، وَهَجَرْنَاهُ، لَمَا سَلِمَ مَعَنَا لاَ ابْنَ نَصْرٍ، وَلاَ ابْنَ مَنْدَةَ، وَلاَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُمَا (18)، وَاللهُ هُوَ هَادِي الخَلْقِ إِلَى الحَقِّ، وَهُوَ أَرحمُ الرَّاحمِينَ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الهوَى وَالفظَاظَةِ.)) (19)
الأمر الرابع : ومما ينبغي مراعاته في هذا الباب أنه قد يتبرأ من الخطأ ولا يتبرأ من المخطئ ، فيحذر من زلة العالم وتجتنب ، وفي مقابل ذلك تحفظ كرامته ، ولا تهدر منزلته .
قال الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 220) : (( وَمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ وَالْوَاقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ الَّذِي لَهُ فِي الْإِسْلَامِ قَدَمٌ صَالِحٌ وَآثَارٌ حَسَنَةٌ وَهُوَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ بِمَكَانٍ قَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْهَفْوَةُ وَالزَّلَّةُ هُوَ فِيهَا مَعْذُورٌ بَلْ وَمَأْجُورٌ لِاجْتِهَادِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْبَعَ فِيهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُهْدَرَ مَكَانَتُهُ وَإِمَامَتُهُ وَمَنْزِلَتُهُ مِنْ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ. ))
الأمر الخامس : قرر أهل العلم أيضا في هذا الباب، أنه كما يعذر المخطئ المجتهد المحكوم عليه ، أيضا يعذر من اجتهد من أهل الإمامة والجرح والتعديل فحكم على عالم فأخطأ في الحكم عليه .
قال الإمام الذهبي في السير(6/ 496) : (( لَسْنَا نَدَّعِي فِي أَئِمَّةِ الجَرْحِ، وَالتَّعْدِيْلِ العِصْمَةَ مِنَ الغَلَطِ النَّادِرِ، وَلاَ مِنَ الكَلاَمِ بنَفَسٍ حَادٍّ فِيْمَنْ بَيْنَهُم، وَبَيْنَهُ شَحنَاءُ، وَإِحْنَةٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كَثِيْراً مِنْ كَلاَمِ الأَقْرَانِ بَعْضِهِم فِي بَعْضٍ مُهدَرٌ لاَ عبرة به، ولا سيما إذا، وثق الرَّجُلَ جَمَاعَةٌ يَلُوحُ عَلَى قَوْلِهُمُ الإِنصَافُ )) ا.هـ
الأمر السادس : أن يكون الحاكم على المخطئين على جانب عظيم من التوكل والاستعانة بالله تعالى ليوفقه لإصابة الحق .
قد ذكر الإمام الذهبي كلاما طويلا نفيسا قيما في إيضاح هذه الأمور المهمة التي ينبغي للأمة أن تراعيها عند الفتن المدلهمة وذلك عندما ترجم للحلاج الضال داعية الإلحاد والزندقة : (( فَمَا يَنْبَغِي لَكَ يَا فَقِيْهُ أَنْ تُبَادرَ إِلَى تكفيرِ المُسْلِمِ إلَّا ببُرْهَانٍ قَطعِيٍّ، كَمَا لاَ يسوَغُ لَكَ أَنْ تعتقدَ العِرفَانَ وَالوِلاَيَةَ فِيْمَنْ قَدْ تَبرهنَ زَغَلُهُ، وَانْهَتَكَ بَاطنُهُ وَزَنْدَقَتُه، فَلاَ هَذَا وَلاَ هَذَا .
بَلِ العَدلُ أَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ صَالِحاً مُحسِناً، فَهُوَ كَذَلِكَ، لأَنَّهُم شهدَاءُ اللهِ فِي أَرضِهِ، إِذِ الأُمَّةُ لا تجتمع على ضَلاَلَةٍ .
وَأَنَّ مَنْ رَآهُ المُسْلِمُوْنَ فَاجراً أَوْ مُنَافقاً أَوْ مُبْطِلاً، فَهُوَ كَذَلِكَ .
وَأَنَّ مَنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنَ الأُمَّةِ تُضَلِّلُه، وَطَائِفَةٌ مِنَ الأُمَّةِ تُثْنِي عَلَيْهِ وَتبجِّلُهُ، وَطَائِفَةٌ ثَالثَةٌ تقِفُ فِيْهِ وَتتورَّعُ مِنَ الحطِّ عَلَيْهِ، فَهُوَ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَضَ عَنْهُ، وَأَنْ يفوَّضَ أَمرُه إِلَى اللهِ، وَأَنَّ يُسْتَغْفَرَ لَهُ فِي الجُمْلَةِ؛ لأَنَّ إِسْلاَمَهُ أَصْليٌّ بيقينٍ، وضلالُه مشكوكٌ فِيْهِ، فَبِهَذَا تَسْتريحُ، وَيصفُو قَلْبُكَ مِنَ الغِلِّ لِلْمُؤْمِنينَ.
ثمَّ اعْلمْ أَنَّ أَهْلَ القِبْلَةِ كلَّهُم، مُؤْمِنَهُم وَفَاسقَهُم، وَسُنِّيَهُم وَمُبْتَدِعَهُم -سِوَى الصَّحَابَةِ- لَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ سَعِيْدٌ نَاجٍ، وَلَمْ يُجمعُوا عَلَى مُسْلِمٍ بِأَنَّهُ شقيٌّ هَالكٌ، فَهَذَا الصِّدِّيقُ فردُ الأُمَّةِ، قَدْ علمتَ تَفَرُّقَهُم فِيْهِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ، وَكَذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَذَلِكَ الحجَّاجُ، وَكَذَلِكَ المَأْمُوْنُ، وَكَذَلِكَ بشرٌ المَرِيسِيُّ، وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهَلُمَّ جَرّاً مِنَ الأَعيَانِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى يَوْمكَ هَذَا .
فَمَا مِنْ إِمَامٍ كَامِلٍ فِي الخَيْرِ، إلَّا وَثَمَّ أُنَاسٌ مِنْ جهلَةِ المُسْلِمِيْنَ وَمُبْتَدِعِيهِم يذمُّونَه، وَيحطُّونَ عَلَيْهِ .
وَمَا من رأس في البدعَةِ وَالتَّجَهُّمِ وَالرَّفضِ إلَّا وَلَهُ أُنَاسٌ يَنْتصرُوْنَ لَهُ، وَيَذُبُّونَ عَنْهُ، وَيدينُوْنَ بِقَولِه بِهوَىً وَجهلٍ .
وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِقَولِ جُمْهُوْرِ الأُمَّةِ الخَالينَ مِنَ الهوَى وَالجَهْلِ، المتَّصِفِينَ بِالوَرَعِ وَالعِلْمِ .
فَتَدبّرْ -يَا عَبْدَ اللهِ- نحْلَةَ الحَلاَّجِ الَّذِي هُوَ مِنْ رُؤُوْسِ القرَامِطَةِ، وَدعَاةِ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنِصْفْ، وَتَوَرَّعْ، وَاتَّقِ ذَلِكَ، وَحَاسِبْ نَفْسكَ، فَإِنْ تبرهَنَ لَكَ أَنَّ شَمَائِلَ هَذَا المَرْءِ شَمَائِلُ عدوٍّ لِلإِسْلاَمِ، مُحبٍّ للرِّئاسَةِ، حريصٍ عَلَى الظُهُوْرِ بباطلٍ وَبحقٍّ، فَتبرَّأْ مِنْ نِحْلتِه، وَإِنْ تبرهنَ لَكَ -وَالعيَاذُ بِاللهِ- أَنَّهُ كَانَ -وَالحَالَةِ هَذِهِ- مُحقّاً هَادِياً مهدِيّاً، فَجِدِّدْ إِسْلاَمَكَ، وَاسْتغثْ بربِّكَ أَنْ يُوَفِّقَكَ لِلْحقِّ، وَأَنْ يُثَبِّتَ قَلْبَكَ عَلَى دِيْنِهِ، فَإِنَّمَا الهُدَى نُورٌ يقذِفُهُ اللهُ فِي قلبِ عبدِه المُسْلِمِ، وَلاَ قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ، وَإِن شككتَ وَلَمْ تَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ، وَتبرَّأَتَ مِمَّا رُمِي بِهِ، أَرحتَ نَفْسكَ، وَلَمْ يَسْأَلْكَ اللهُ عَنْهُ أَصلاً. )) (20)
في الأخير :
ليس أنفع للأمة وما يصلح أحوال العامة ، إلا أن تضع الأمة ثقتها في أهل العلم والأئمة ، الأمناء على شرع الله الذي يدعو إلى الحكمة ، ولتكن على علم أن أهل العلم لن يمتنعوا عن فعل خير إلا رجاء خير أعظم أو خشية من وقوع شر أعظم ، إذ بعض المصالح قد يمتنع عنها لما تؤدي إليه في المآل من المفاسد العظمى ، والدين الإسلامي دين مصالح ، فلا يقر اعتبار مصلحة دنيا على حساب وقوع مفسدة عظمى .
ألا ترى أن قتل المنافق الثابت نفاقه المعروف باستهزائه بآيات الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين أمر مشروع بل موجب للقتل وهو الردة ومفارقة الدين ، وقد امتنع عنه النبي صلى الله عليه وسلم لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد .
فعن جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال : كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمَّعَهَا اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقَالُوا كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»
قَالَ جَابِرٌ: وَكَانَتِ الأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ، ثُمَّ كَثُرَ المُهَاجِرُونَ بَعْدُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوا، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» (21)
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم (16/ 138 ـ 139) : (( فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحِلْمِ .
وَفِيهِ تَرْكُ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُخْتَارَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ الْمَفَاسِدِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفَ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى جَفَاءِ الْأَعْرَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَغَيْرِهِمْ لِتَقْوَى شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَتِمُّ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ وَيَتَمَكَّنُ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِ الْمُؤَلَّفَةِ وَيَرْغَبُ غَيْرُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَكَانَ يُعْطِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ لِذَلِكَ وَلَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِإِظْهَارِهِمُ الْإِسْلَامَ ))
ففي نهاية هذا البحث الذي اختصرته من كتاب (قواعد في التعامل مع العلماء) لعبدالرحمن اللويحق ، تقديم الإمام عبدالعزيز ابن باز ـ رحمه الله ـ مع التصرف فيه ، نسأل الله تعالى أن ينفع به في هذه الفتنة ، التي أصلها الخروج عن منهج علماء السنة وفهم سلف الأمة ، والغلو في إسقاطهم وتشويه سمعتهم .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه


كتبه الفقير إلى الله : بشير بن عبدالقادر بن سلة الجزائري
الإثنين 30 صفر 1436









______________________________________________
(1) لكن الطائفة الحدادية تريد تبديل وتغيير هذه السنة وطمس هذه الحقيقة بما تسعى إليه من إسقاط العلماء ورميهم بالعظائم وإلصاق بهم الجرائم .
(2) رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/171)
(3) شرح السنة للبغوي (13/ 27)
(4) تذكرة السامع والمتكلم(ص: 41)
(5) سير أعلام النبلاء (12/ 574)
(6) سير أعلام النبلاء (12/ 95)
(7) سير أعلام النبلاء (8/ 259)
(8) رواه البيهقي في (المناقب)(2/259)
(9) سير أعلام النبلاء (8/ 259)
(10) رواه البخاري ( 13/22 ، الفتح)
(11) قال المصنف في الهامش (ص 113) : ليس في الموضوع اشتباه بل الصواب أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه حين عرج به إلى السماء ، وصرح بذلك عليه الصلاة والسلام في حديث أبي ذر في صحيح مسلم وأخبر أنه رأى نورا فقط ، وأخبر في حديث آخر أخرجه مسلم في الصحيح أنه لن يرى أحد منا ربه في الدنيا حتى يموت وبذلك يعتبر الأمر واضحا ومنتهيا . ا.هـ قاله ممليه عبدالعزيز بن عبدالله بن باز في 21/5/1414هـ
قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ : قال الشيخ حمد بن إبراهيم في كتابه دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون (ص 68) :
وكذلك تنازع الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فهناك انفكاك في الجهة ، فمن أثبت الرؤية أراد القلبية ومن نفى أراد البصرية والقولان متفقان . ا.هـ انظر منهاج السنة (6/326)
(12) سير أعلام النبلاء (10/ 114)
(13) سير أعلام النبلاء (12/ 456)
(14) حلية الأولياء (2/ 285)
(15) سير أعلام النبلاء (9/ 113)
(16) سير أعلام النبلاء (7/ 409)
(17) جامع بيان العلم وفضله (2/ 821)
(18) فلم يسلم لنا مع الحدادية لا العلماء السابقون ولا المعاصرون والله المستعان .
(19) سير أعلام النبلاء (11/ 27)
(20) سير أعلام النبلاء (11/ 212)
(21) صحيح البخاري (6/ 154)
آخر تعديل بواسطة أبوأنس بشير الجزائري في الاثنين 30 صفر 1436هـ (22-12-2014م) 11:19 pm، تم التعديل مرة واحدة.


أضف رد جديد